للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يبقى من الوزن لهذه القيمة إذا جردت من المبالغة الشعرية؟ لا شك أنه لم يبق إلّا أن يقوم بنسال الشعر وفتات البعر، وإذن يصدق فيه قول زميل له حرّ: وشرّ الشعر ما قال العبيد، وقد انتقدوا شاعرًا أندلسيًا ضاق عطنه حتى في باب الأماني التي هي أوسع مجال تسرح فيه أخيلة البائسين والكسالى فقال أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال، فقصر أمنيته على ألف مثقال من أمير عُرف عنه أنه يهب آلاف المثاقيل.

وليتكم يا سيدي صيرتم كسر الراء معنى يحتمله اللفظ أو أسبغتم عليه وصف الأرجحية، كل ذلك كان يُقبل منكم ويناسب فضلكم وتحريكم المعروف، وفي وجوه الاحتمال منادح ومخارج، ولكنكم صممتم على الكسر وعلى الفضّة، كأنه المعنى الذي لا يحتمل اللفظ غيره، حتى بعد أن أنشدتكم الشاهد على الورَق بمعنى المال، وهو: اغفر خطاياي وثمر ورقي.

فإذا كان لأخي الفاضل مستند في تصميمه فلا جائز أن يكون رواية مسلسلة إلى سحيم تثبت أنه كان ينطق هذا اللفظ بالخصوص بالكسر، وإنما يجوز أن يكون مستنده ضبطًا لقلم بعض الثقات أو بقول بعضهم (بكسر الراء) كما هو معتاد، وهذا كله لا حجّة فيه ما دامت البلاغة تنافيه، وسمو المقصد يجافيه، ولو أني سمعتُ بأذني سحيمًا ينشد بيته ويكسر الراء لما حكمت عليه بالخطأ ولكني أحكم عليه بالإسفاف وسقوط الهمة أوّلًا وبانحطاط ذوقه البياني ثانيًا، ولو أن بليغًا من بلغاء العرب سمع سحيمًا ينشد هذه اللفظة بالكسر وهو لا يعرفه، لَحكم عليه بأنه عبد النفس إن لم يكن عبد البدن.

هذا وقد تناولتُ- عند وصولي في الكتابة إلى هذا المحل- نسخة ديوان سحيم التي تفضلتم بإهدائها إليّ وكشفت عن محل البيتين فوجدت الشارح يقول: الورِق الدراهم والورِق المال، ووجدتُ الناسخ ضبط الكلمتين بكسر الراء ضبط قلم، فلاح لي أمران: الأول أن ضبط الكلمة الثانية بالكسر غير صحيح، وأن الشارح أراد أن الورِق بالكسر الدراهم والورَق بالفتح المال، لأن هذا هو مشهور اللغة، ولو كان يريد أنهما من المشترك اللفظي الذي يدلّ بصورة واحدة على معنيين لقال: والورِق المال أيضًا، فزاد كلمة (أيضًا) كما هو المعتاد في الأساليب القاموسية عند ذكرهم لمعاني المشترك اللفظي. والأمر الثاني أن هذه العبارة ذكرتني بأن استعمال الورِق بالكسر اسمًا للمال منقول وإنْ لم يكن مشهورًا، وذكرت ذكرًا غامضًا أن هذا مرّ بي ولكني نسيته لطول العهد وليس معي ما أراجعه لأنني على جناح سفر، فإذا ثبت هذا اغتفر تصميمكم على الكسر ولم يغتفر تصميمكم على تفسيره بالفضّة. وعلى هذا الاحتمال- إن صحّ- فلنقرأ الورِق في بيت سحيم بالكسر ولنفسره بالمال عامة، لأن حرصنا ليس على اللفظ وإنما هو على المعنى الذي يشرّف سحيمًا ويبيّض وجهه.

<<  <  ج: ص:  >  >>