للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصاحبنا سحيم، الشاعر الرقيق، الذي أدرك النبوة وأظلته دولة الخلفاء الراشدين، لا يحمل كلامه إلا على الاعتبارات الفطرية التي قررها كتاب الفطرة، وما سحيم إلّا من ناشئة الصحراء العربية، وما مقاصده إلّا من نوع مقاصد العرب، وما أخيلته وأمانيه إلّا من نوع أخيلة شعراء العرب وأمانيهم، يرمون فيها المرامي القصية وبركبون فيها من المبالغة والإغراق ما يخرجهم عن أفق الحقائق، وحسبك شهادة الله لهم بأنهم في كل واد يهيمون.

وقولهم "المرء ابن بلدته لا ابن جلدته" كلمة أصيلة في الحكمة الاجتماعية، فإن المرء إذا نشأ في قوم لا يجمعهم به عرق نسب، ينشأ كواحد منهم، ولو باعدت بينهم وبينه الخصائص الجنسية والدموية، ومن أبين ما يجتمع معهم فيه اللغة: ألفاظها ومعانيها وأساليبها وأسرارها، وسحيم لم يخرج عن هذه القاعدة، فهو مع سواد الجلدة وجامعة النسب، عربي اللغة والأدب، أما الشعر فهو قابلية خاصة بحيث لو تفتّق لسانه على لغة قومه لكان شاعرًا في لغتهم، على نسبة تلك اللغة في الضيق والاتساع.

ويؤيّد ما حملنا عليه كلام صاحبنا سحيم- وهو الأولى بل المتعين- أن العرب ما كانت تعد الفضّة بل ولا الذهب مالًا يزين صاحبه ولا متاعًا مما يفتخر به جامعه، وإنما يعدونهما قيمًا للأشياء وكما هو الاعتبار الصحيح الذي جاء به الإسلام بعد ذلك، فهما وسيلة لا مقصد، وهما معبر لا مستقر، وإنما المال عندهم الثاغية والراغية وضربهم المثل بحمر النعم معروف، وإضافتهم ربيعة إلى الفرس مشهور، ووصفهم مضر بالحمراء معلوم، وهي ألقاب تمدّح وإعظام، ومن كلام رجل منهم- لم أذكر اسمه الآن- وقد سُئل عن أفضل المال فقال: مهرة مأمورة وسكة مأبورة، قيل ثم ماذا؟ قال: عين فوارة في أرض خوارة، قيل فأين أنت من الذهب والفضّة؟ قال: حجران تصطكان، إنْ أنفقتهما فقدا وإنْ تركتهما لم تزيدا.

هذه- أبقى الله سيدي الأخ- بعض اعتبارات العرب للمال يجب أن يحمل كلام صاحبنا سحيم عليها، لأنه شاعر عربي ولشعراء العرب في التصور والتصوير موازين كموازين شعرهم تختل بحركة اختلاس، ويدركها الزحاف بحرف يزيد أو ينقص، وقد قرأ أخوكم هذا من صغره ما تفرق من شعر هذا العبد في الكتب، ووقف على شعره الفاحش في مجموعة من نوعه يملكها أحد الأصدقاء بالمغرب الأقصى، فوجدته حرّ الأخيلة عميقها، صادق التصورات، عربي النزعات، بدوي الخصائص الشعرية، جاريًا ملء عنانه في الميادين التي جرى فيها الشعراء، ومنها ميدان الفخر، فلذلك تراني لا أجيز لنفسي أن تحمل ألفاظه المحتملة إلّا على الأسمى من معانيها والأرفع من أغراضها، ومنها لفظ الورق.

ويا سيدي: إن في معاني الألفاظ العربية عمومًا وخصوصًا، وإن للخصوص مواضعه في التراكيب تبعًا للمقاصد، وللعموم مواضعه فيها كذلك، والمقاصد والأغراض هي المتحكمة

<<  <  ج: ص:  >  >>