في تتريل الألفاظ منازلها، فهل ترضى لصاحبك الذي أحييته أن تُميته فتجعل أشعاره البليغة قائمة مقام الفضّة لا الذهب ولا غيره من الأموال لا سيما مع وجود معنى للورق يفي بالغرض الأشرف، وتسمية العرب للمال بمعناه العام وَرَقًا تسمية عريقة النسب في البلاغة، قريعة لتسميتهم إياه بالريش، وقد استعاروا الاسم الأول من ورق الشجر لأنه يظلّل ويحمي ويثمر، كما استعاروا الاسم الثاني من ريش الطائر لأنه يكسو ويحمل ويعلو بصاحبه، ولكن الاسمين اشتهرا حتى استغنيا عن القرائن، وللعرب تخيلات صادقة دقيقة في معاني الألفاظ المشتقة والمنقولة تدلّ على سداد تصرفاتهم الذهنية.
...
ثم إن لكل زمن موازينه للأشياء واعتباراته إياها، وموازين الأزمنة هي قوانين التطور، ولا تفلت منها الطبقات العليا في المجتمعات البشرية كالشعراء والعلماء والملوك، ولا معنى للتطور إلا اختلاف الاعتبارات حتى يصبح القبيح حسنًا والحسن قبيحًا، ولهذا نرى أن معروف البداوة منكر في الحضارة وحسن الحضارة قبيح في البداوة، وإذا خرجنا من باب القبح والحسن والعرفان والنكر إلى باب السمات والألوان نجد القياس مطردًا، وكذلك يقال في أساليب الكلام من شعر وخطب وأحاديث عادية، فنجد النقاد يفرقون بين شعر البادية وشعر الحاضرة بسمات ثابتة يدركها كل دارس باحث، ولكل تطور أسباب طبيعية آتية من تحرك الاجتماع البشري وعدم استقراره على حال، وقد رأوا في شعر عدي بن زيد العبادي رقة ليست من سمات الشعر الجاهلي فحكموا بأن مأتى ذلك إنما هو لنشأته في ريف العراق، وغشيانه للحيرة وتردده على ملوكها، وصوغه الشعر فيهم، والحيرة هي حاضرة العرب في الجاهلية، ومن هنا كانت الفروق واضحة بين الشعر الجاهلي وبين شعر الخضرمة والإسلام، وبين هذه الأنواع كلها وما جاء بعدها في مراحل الحضارة الإسلامية.
فلننظر- على هداية قانون التطور وآثاره- إلى العصر الذي كان فيه سحيم وإلى مفهوم المال عندهم وإلى منزلة الفضّة من بين أنواع المال بينهم، نتبيّن أن الفضّة ليست بشيء في اعتبار ذلك العصر وعند أهله، وأن الفضّة لم تخطر على بال سحيم حينما قذف بيتيه في وجوه المفاخرين، وإذا كان أثر الشعر في نفس سامعه متصلًا بأثره في نفس قائله، فكيف يتصور أن يقوم شعره بشيء لا قيمة له في نفوس سامعيه ومفاخريه، أو له قيمة نازلة، والمعروف أن الشعراء ليس لهم باب يدخل عليهم منه المال إلّا جوائز وصلات الأمراء والرؤساء ثمنًا لما يمدحونهم به، والجوائز والصلات في ذلك العصر وبعده بقليل لم تكن بالفضّة ولا بالذهب، وإنما كانت في الأعم الأغلب بكرائم النعم والخلع والطرائف، لذلك لا نسمع في شعرهم إلّا ذكر الذود والعكره والهنيدة والجامل العكنان، وقد دامت هذه