للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محمد من مكة التي هي موطنه ولكن كانت له في هذه الرحلة الأرضية حِكَم ولنا فيها عبر، فقد كانت رمزًا إلى أنَّ مُلْكَ الإسلام سيتسع حتى يبلغ في مرحلته الأولى ممالك النبوّة قبله ومواطنهم ومواطئ أقدامهم ومدافنهم، وسينشر فيها هدايته وسَيَبْسُطُ عليها حمايته وكذلك وقع، ومواريث النبوّة لا يستحقّها إلا الأنبياء والمضطلعون بها من أممهم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «زُوِيَتْ لِيَ مِنَ الْأَرْضِ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا».

...

من التزوير على التاريخ أن يقال إن اليهود احتلّوا فلسطين بالقوة العسكرية كما يحتل القوي الغالب أرض عدوّه الضعيف المغلوب، ألَا إن كلمة الحق التي يقف الواقع بجنبها شاهدًا لا يكذب هي أن ملوك العرب وزُعَماءَهُم المتحكمين في مصائرهم المنفّذين لإرادة المستعمر هم الذين سلّموا فلسطين لليهود سائغة هنية وحقّقوا للإنجليز غايتهم وما شرطه اليهود عليهم من تسليم فلسطين فارغة من العرب كما تسلم الدار المبيعة فارغة من الساكن، فاصطنعوا لذلك التسليم المقرّر وسائل وأعذارًا من التخاذل والمشاكسات بين القادة العسكريين حتى تمّ الأمر بذلك التسليم المهين، وكلّ ذلك تمَّ وفق خطة مدبرة متصلة الحلقات من الانجليز وأعوانهم منا في مقابلة نفع مادي شخصي زائل ومناصب مضمونة لعدة رجال من العبيد باعوا قومهم بتلك الوظائف، وما زلنا نراهم رأي العين يتقلبون في تلك الوظائف الذليلة وينفّذون أغراض الاستعمار ويدافعون عنها، وقد حنّ لهم الدهر فنالوا ما نالوا. فيا ويحهم ان عَقَّهم الدهر وصحا من تلك اللوثة، وما صحوه منها ببعيد، وما مصرع فاروق وعبد الله ببعيد من الذين باعوا فلسطين بالثمن الزهيد، ومهما تكن تلك الوظائف مضمونة من الانجليز فإن وراءها الموت والعار والسبّة الخالدة ووراءها هبة الشعوب وثورات المكبوتين.

أما الصهيونية فهي قديمة ولقد كانت في مرحلتها الأولى نسيجًا من أحلام وخيالات وأماني، ولكن كثرة ملابسات القائمين بها للدول الاستعمارية نقلتها من طور إلى طور حين وجد كل من الاستعمار الأوروبي والصهيونية في صاحبه عونًا ومساعدًا على أغراضه، ولم تزل المصالح المادية تقرب بينهما حتى اجتمعا في بعض النقط فتعاهدا على تقارض العون والمساعدة إلى نهاية الشوط، وصاحب ذلك ضعف الشعوب العربية وإحباطها وجهلها، فكان ذلك كله معينًا على تنمية الفكرة، وجاءت الحرب العالمية الأولى والعرب على تلك الحالة فاتفقت دول الاستعمار على تشتيت العرب وتمزيق أوطانهم واستغلال الكنوز التي يجهلونها في أرضهم وأهمها البترول، ولما كان نظر الاستعمار بعيدًا وعلم أن انتصاره في تلك الحرب يضمن له تشتيت العرب وتمزيق بلادهم ولكنه لا يضمن له بقاءهم على تلك الحالة طويلًا فرأى أن يرميهم بالداهية الدهياء وهي تحقيق الوطن القومي لليهود.

<<  <  ج: ص:  >  >>