للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خروج النبي بنفسه إلى تبوك من طريق الشام رمز إلى ذلك وإيحاء به وإنذار للرومان، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش مُؤْتَة لقتال الروم ومن يُواليهم من العرب والأنباط في مشارف الشام أنه خطوة ثانية ثم نتلمح في تجهيزه لجيش أسامة وهو في مرض موته تأييدًا لتلك المرحلة، وكلّها إنذارات للروم حقّقها ما بعدها.

تمّ فتح المسلمين لفلسطين في أيام عمر، وكان هذا الفتح كسائر الفتوحات الإسلامية يحمل الهدى والسلام ويفتح الأذهان قبل البلدان، وكان ينطوي على معنى الثأر لموسى ودينه وقومه اليهود لو كانوا يعقلون، فقد قطع دابر الرومان ودولتهم من فلسطين، وطهّرها من ظلمهم واستعبادهم لليهود، فلم يروا ناصرًا قويًا مثلما رأوا في الإسلام لو كانوا يقدّرون النعمة ويشكرونها، وبفتح المسلمين لفلسطين وفيها بيت المقدس رجع إرث النبوّة إلى النبوّة واجتمعت مساجد الإسلام الثلاثة في يد واحدة قوية قادرة على حمايتها، وعادت القبلة الأولى إلى الوجوه التي كانت تستقبلها وإلى النفوس المطمئنة لعبادة الله وحده فيها، وإلى الأيدي القادرة على حملها، وإلى أبناء العم لو كان اليهود يرعون للأرحام حرمة، وفي فتح أصحاب محمد لبيت المقدس تتجلى الفروق بين الطبيعتين العربية واليهودية، وشتان ما بين من يبذل مهجته في سبيل الله وتثبيت دينه الحق في الأرض، وبين من يكذب وعده ويشترط على رسوله، ويتألَّى عليه أن يؤتيه الملك والعز وهو نائم ناعم ويستعلي على خلقه.

...

قضية فلسطين في جوهرها وحقيقتها واعتبارها التاريخي قضية إسلامية من حيث إن فيها المسجد الأقصى ثالث المساجد المقدسة في حكم الإسلام، وهو أول قبلة صلى إليها المسلمون قبل الكعبة، ولئن نسخ هذا المعنى فإن الخصائص الأخرى من الاحترام الديني وشد الرحال إليه لم تنسخ، وان المتوسمين في آيات الله المستخرجين لدقائق الحكم منها يتلمحون من الأسرار في اختيارها قبلة أولى وفي كونها كانت نهاية للإسراء وبداية للعروج ما يضعها في موضع من الاحترام يوجب الدفاع عن مشاعرها، ودفع كل معتدٍ على حرماتها أن تدنس بوثنية، وتطهيرها من كل من يريد بها شرًا أو يريد فيها بإِلْحاد وإنها ميراث النبوّة وضعه الله في أيدٍ قادرة على حمايتها، وقد دافعت عنها بالفعل، وأقامت البرهان على اضطلاعها بحمايتها مدة أربعة عشر قرنًا كاملة، وحاربت عليها أمم الأرض، وما سلبها الله من اليهود وأورثها المسلمين إلا لأن اليهود كانوا أعجز الناس عن حمايتها.

ومن حيث أن فيها الصخرة التي هي أول محطة لاتصال الأرض بالسماء، ذلك الاتصال الذي كان سببًا فيما فاض على الأرض من بركات السماء، ولو شاء الله لكان المعراج بعبده

<<  <  ج: ص:  >  >>