للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استحقاقًا إلهيًا لا نتيجة للجهاد والقراع. لم يشهد لهم التاريخ موقف دفاع عن حوزة، ولا سجَّل لهم صفحة واحدة في حماية حمى أو ذود عن حرمة وطن حازوه في ظل النبوّة، ذلك أن اليهود لا وطن لهم ولا وطنية في طباعهم بمعناها المعروف عند الأمم، فادعاءهم للوطن القومي تدجيل وتضليل، وإنما الوطن القومي حلم دعا إليه منهم المهووسون جرْيًا وراء أَخْيلةٍ من الماضي العريق من غير تبصّر في طبائع الأشياء، وأَلْهِيَةٍ ابتكروها لهم ليسلوهم بها عن المصائب التي جَرَّتها عليهم أنانيتهم، وشيء زيّنته لهم التطورات المتلاحقة في العالم، والداعي الأصيل إلى ذلك في نفوسهم هو حب المال، إذ كل شيء عند هؤلاء القوم ما عدا المال هو وسيلة لا مقصد في الفلسفة اليهودية، وقد كذبوا وعد الله لهم على لسان موسى من أن الأرض المقدسة كتبها الله لهم، وكتب لهم فيها التمكين إذا أخذوا بأسبابه وأهمّها القتال، وهم لا يحبّون القتال لأنه يؤدّي إلى القتل وهم أحرص الناس على الحياة.

ولو أن أمة غير الأمة الإسرائيلية كانت سليمة الفطرة، وكانت سليمة النفوذ من آثار الاستعمار الفرعوني الطويل سمعت من نبي كموسى عُشُرَ ما سمعه بنو إسرائيل من موسى من وعد الله إياهم بالملك والتمكين إذا أخذوا بأبسط الأسباب لذلك لأقبلوا على الموت مستبشرين، ولكن بني إسرائيل كذَّبوا وعد الله ولم تفدهم مواعظ موسى في تلك القلوب الغُلْف وفي تلك النفوس التي قتل الذل منها كل عرق يخفق بالعِزّة، وما هو إلا أن جاوزوا البحر وأهلك الله عدوّهم وهم ينظرون، حتى حنوا إلى ما كانوا عليه من ذل واستعباد ووثنية هي من آثار الذل والاستعباد الطويل، فأَغْواهم السامري واتَّخذوا عجلًا من ذهب وعَكَفوا عليه وقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}، وقالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وإنك لا ترى في تاريخ الأمم النفسي أخلاقًا أفسدها الاستعباد ولم ينجح فيها علاج الأنبياء ولا معجزاتهم، وهم أطباء الأرواح المريضة، كما ترى في أخلاق هذه الأمة المتبجحة باصطفاء الله لها دون الأمم.

سقنا هذه الكلمة القصيرة المجردة من التنسيق التاريخي لنرى أن هذه الأمة ليست أمة مُلْك في تاريخها الطويل، وأنها لا تملك وسائله التي يملكها غيرها، فإذا قام لها ملك ففي ظل النُبُوَّة والخوارق وهي وسائل غير كسبية، وإذا تقلص عليها ذلك الظل تداعت عليها الأمم وأوْسعتها قتلًا وسبيًا وتحيفًا، ولم يزل هذا دأبهم إلى أن جاء الإسلام.

جاء الإسلام وكان من مقاصده الأولى بناء المملكة الإسلامية على صخرة السنن الإلهية والأسباب والمسببات لا على الخوارق، وكان من مقاصده نشر هدايته وفضائله في أرض النبوات الأولى بعد تطهيرها من الجبروت الروماني ومن الاستخذاء اليهودي، وإنا لنتلمح في قصة الإسراء والمعراج- وهما من صنع الله- ثم من اتجاهات نبي الإسلام وتوجيهاته ما يشعر بأن فتح الإسلام لمواطن الأنبياء ومدافنهم كان هو المقصد الأول للإسلام، وكأن

<<  <  ج: ص:  >  >>