للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن ذلك الملك وذلك المظهر لا يخرج عن نطاق الدين المؤيد بالعلم والحكمة، كما وقع لداود وسليمان فمُلكهما كان دينيًا محضًا، وهل يحتاج بناء الملك المادي في مألوف العادة إلى تسخير الجند والطير والريح؟ وقد انقضى ذلك النوع من الملك بانقضاء زمنه، ولم تَجْرِ به سنة الله في الأمم والملوك، وكل ما يذكر عن ملوك بني إسرائيل فهو متأثر بذلك النوع أو مصبوغ بصبغته، وفيما عدا تلك الفترات الدينية التي كان يقوم فيها الملك على الدين، أو يؤيد فيها الملك بالخوارق، أو يعضد بالعلم والحكمة، فإن بني إسرائيل لم يظهروا في التاريخ كأمة مدنية تستطيع بمؤهلاتها البشرية ومواهبها الفطرية المشاعة بين الأمم أن تقيم دولة أو تؤسس حضارة ذات خصائص جنسية منتزعة من الطبيعة الإسرائيلية من غير اعتماد على عامل خارجي عَبْر الخوارق، وقد دعاهم موسى إلى الملك وأكّد لهم ذلك بوعد الله بعد أن يقوموا بالأسباب العادية التي لا يقوم الملك إلا عليها، وأهمها الغلاب والقتال في سبيله فأبوا عليه وعَنَّتوه جريًا على الطبيعة المتأصلة فيهم من الجبن والمذلة وحب المكسب المادي الميسَّر الهنيء، وقالوا له تارة: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} وقالوا له مرة أخرى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}. وقد لقي موسى الْأَلَاقِيَ في سبيل دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة وإعدادهم للملك وفَهْم سنن الله فلم يفلح.

واليهود في أخلاقهم النفسية وطبعهم الأصيل شعب أنانيٌّ يُحِبُّ الاستئثار بالفضائل الإنسانية من دون أن يعمل لها أو يضحي في سبيلها، ليذهب به الغرور كل مذهب في تمجيد الجنس اليهودي واصطفاء الله له على الشعوب إلى درجة أن دماء الأمم الأخرى وأموالها كلها مباحة له، لأنها مخلوقة لأجله، وتَملُّك الغير لها إنّما هو اعتداء وغصب، فسرقة أموال الناس في نظرهم ليست سرقة وإنما هي استرجاع لِحَق كان مغصوبًا، وهم ينتحلون لذلك نصوصًا من وضع أحبارهم ولكنهم يُسْندونها إلى الله، ويسوقونها في صورة تدليل من الله بجنسهم ويجادلون الله فيها كما يجادل الكفء الكفء، حتى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، والأحباء هم قرابة الملك أو المقربون منه. وقد مرّت بهم في تاريخهم فترات ترتفع فيها يد الله عنهم ويوكلون إلى أنفسهم فيضيع تدبيرهم ويتكشفون عن جهل بتدبير البيوت فضلًا عن تدبير الممالك والدول، ويتناهبهم الأقوياء من الفرس والرومان فيبيدون خضراءهم ويستبيحون حرماتهم ويتقاسمهم السيف والتشريد والسبي، فلا يذهبون في ذلك إلى تعليله بعلله المعقولة، ولا يرجعون فيه إلى موازين صحيحة من أحوال الأمم، ولا يفقهون أن سنن الله تنالهم كما تنال غيرهم، وإنما يقولون: ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. كلمة يقولونها كلما أحاطت بهم خطيآتهم والتحمتهم الأمم وذاقوا عواقب الأنانية والكيد والاغترار واحتقار الأمم وعدم الاعتبار للسنن الإلهية، ولاعتبارهم الملك وعزة الحياة

<<  <  ج: ص:  >  >>