للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأن موت البعض من بعض قريب، كما يقول الشاعر، وانخنست تركيا قانعة بالموجود وما درت أن الموجود اليوم مفقود غدًا، ولكن الجزائريين لم يسكتوا، وبدأت المقاومة لأول أمرها قريبة من نظام المرابطة، ثم نظمت على يد الأمير عبد القادر بن محيي الدين وبقيادته، وبلغت الأوج في سنواتها الأولى وأصبحت مرهوبة يخشى بأسها في سنواتها الوسطى، وذاق الفرنسي الوبال، وتجلّى الجزائري عن بطولة كاملة يرفدها الروح المركب بيد الإسلام من حقيقة العربي والبربري التي أصبحت بفضله حقيقة واحدة، وبقي الحفاظ متأجّجًا سبع عشرة سنة تعاونت العوامل في آخرها على القائد عبد القادر فاستسلم مكرهًا وتحطمت المقاومة الجماعية المنظمة بتسليم الأمير. ولكن هل تحطمت المقاومة بتسليم الأمير؟

لم تتحطم المقاومة إلا في السهول التي مهّد سبلها وفعل فيها الجيش الفرنسي الأفاعيل الوحشية التي يعترف بها القادة مثل القائد سانت أرنو في كتابه المعروف برسائل سانت أرنو، فمن أراد أن يعرف ما تصنعه الوحشية العاقلة، وما صنعته فرنسا في الجزائر من تقتيل وتحريق للجماعة الكاملة بنسائها ورجالها وأطفالها فليقرأ ذلك الكتاب، ولو اشتراه باحث بوزنه ذهبًا لما كان مغبونًا، لأنه يضع يده على الفظائع التي ارتكبها أجداد هؤلاء الكاذبين المتبجحين المستطيلين على العالم بالدعاوى الزائفة في العلم والمدنية.

أما في الجبال فبقيت المقاومة على أشدّها في شكل تمرّد شامل وفي ثورات متتالية في جهات متباعدة لا تدلّ على قوّة وإنما تدلّ على حمية وأنفة، إلى أن كانت أكبرها وخاتمتها ثورة الحاج أحمد المقراني سنة ١٨٧١، في أثناء اشتغال فرنسا بحربها السبعينية مع الألمان، في مقاطعة قسنطينة التي تشكّل نصف القطر الجزائري تقريبًا في عدد السكان ورقعة الأرض، وكانت ثورة المقراني بعد واحد وأربعين سنة من الاحتلال مرّت كلها في المقاومات والثورات المسلّحة ولم تسترح فيها فرنسا، ولا اطمأن لها جنب، فمدة المقاومة المتصلة إذن هي أربعون سنة وهي من أطول المقاومات أمدًا في التاريخ. ولو طالت الحرب السبعينية بين فرنسا والألمان سنتين أو ثلاثة لباءت ثورة المقراني بالنصر والنجاح، ولكن فرنسا انهزمت ودفعت الجزية للألمان عن يد وهي صاغرة، ودفعت ببقايا جيشها إلى الجزائر لتحطيم ثورة المقراني.

فهذه هي نهاية الجهاد المسلّح، أما أنواع الجهاد الأخرى ففيها تظهر قوّة الجزائر وإيمانها وصلابتها، ولا يعرف قيمة هذا النوع من الجهاد إلا من عرف "فرنسا في الجزائر" وما سلّطت فرنسا على الجزائر وما ساقت إليها من شرور وبلايا.

إن فرنسا بعد التمهيدات العسكرية الأولى رأت أن عمل الحديد والنار لا ينفع ولا يدوم، لأنه يمنع القرار والاستغلال، وهي ما جاءت إلا لتستقر وتستغل، ورأت أن ملك

<<  <  ج: ص:  >  >>