للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العبر والحكم، ودراسة الأسباب اللازمة لمسبباتها، فلا يلهج قديمهم ولا حديثهم إلّا بالنصر والخوارق المصاحبة للنصر، وكثيرًا ما يكون الافتتان بالنتائج مشغلة عن الحقائق والأسباب التي هي محل القدوة، وكأنهم بهذا الافتتان يعتقدون أن انتصار الإسلام على الوثنية يوم بدر من الخوارق الخارجة عن نطاق الأسباب، وهذا إبطال لآثار التشريع الإلهي في النفوس. فإن الخوارق ليست محلًا للأسوة، ولا أساسًا للتشريع، والإسلام لم يبن قواعده وأحكامه على الخوارق، وإنما بناها على الأسباب والمسببات، وعلى السنن الثابتة التي يتعايش بها البشر وتدخل في إمكانهم، ولو بناه على الخوارق لبطل العقل، وشلت الإرادات، وفلت العزائم، هذه الثلاثة هي التي يجعلها الإسلام أدوات لفهمه وتثبيته.

ولو شاء الله لهدى الناس جميعًا لسائق وجداني من غير احتياج إلى رسول ولا دعوة، ولو شاء لنصر عبده محمدًا يوم كان وحده، ولوم كان معه عدد قليل، وجماعة مستضعفة، لو شاء فعل ذلك ولم يلحق نبيه أذى بدني ولا ألم نفساني.

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.

وكل ما يعج به الكون من يوم خلقه الله إلى يوم يفنيه هو سنن للكون والفساد تصطرع في ميدان النزال فتكون الغلبة لأقواها حسًّا أو لأقواها معنى، فإذا اتصلت بالعالم الإنساني، كان الآخذ بالأسباب، المحسن لاستعمالها، المقدر لمقاديرها وظروفها هو الناجح.

نعم، في غزوة بدر مواقف للاعتبار والاذكار، ومواطن للتأمل والاستبصار، وقد تتجلى العبرة في بعض الأزمنة دون بعض، فإذا وجدت من يستشفها كانت له واعظًا فانتفع بها ونفع، وقد تمر بالغافل أو يمر بها معرضًا فيكون من الذين قال فيهم القرآن: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} والعبرة البليغة لقومنا العرب في زماننا هذا من وقعة بدر هي نصر الله للفئة القليلة على الفئة الكثيرة فلا يقول المتوسمون في آيات الله وسننه: إن النصر كان خارقة غيبية وإن كانوا يعتقدون أن النصر من عند الله يهبه لمن شاء، ولكنه لا يهبه إلّا بأسبابه وأحكم ما قال الحكماء الربانيون: إذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه. إن انتصار نيف وثلاثمائة على ثلاثة أضعافهم ليس خارقة غيبية الأسباب، وإنما هو جار على السنن المعتادة. وما أُتِيَ من يعتقد خلاف هذا إلّا من الغفلة عن سنن الله، أو من التقصير في استقرائها، وكلنا نعلم ونشاهد أن الفئة القليلة تنتصر على الكثيرة إذا كانت الأولى مسلحة والثانية عزلاء، أو كانت القليلة أزود سلاحًا من الكثيرة.

هذا في الماديات ومثله في المعنويات، علمنا بانتصار الفئة القليلة على الكثيرة بإحسان التدبير، وإحكام الرأي، ولطف التحيل، فلماذا نغفل عن الإيمان والعقيدة، وأثرهما في انتصار أصحاب بدر على ثلاثة أضعافهم؟ إن المسلمين انتصروا يوم بدر بالإيمان الصحيح

<<  <  ج: ص:  >  >>