للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القوي الذي ثبت العقائد فثبتت الإرادات فاندفعوا اندفاع من يريد أن يموت ليحيا دينه وقومه وبلاده. كانوا يعتقدون أن ما يقاتلون عليه هو الحق من ربهم، وأن محمدا الداعية إلى هذا رسول الله الصادق الأمين، وأن موتهم في سبيل دعوته طريق إلى الجنة التي وعدوها، فتصوروا خلودها كرأي العين، ووعد الله بها كقبض اليد، وأنه ليس بينهم وبين دخولها إلّا فراق الروح للجسد، وأن الموت لا فرار منه، وأنه ملاقيهم ولا بد، وأن هذه الأرواح ودائع أو بضائع، والودائع مسترجعة، والبضائع لها سوق ولها قيم، فاختاروا السوق ميدان الجهاد، والبيع لله، والقيمة رضاه وجواره.

هذه هي الروح التي لبست تلك الفئة القليلة حين تراءت الفئتان، فئة الله وفئة اللات في شعب بدر، وهذه هي القوّة التي تتضاءل أمامها كل الدنيا، ومحال أن ينهزم حامل هذه الروح.

أما الفئة الكثيرة فقد خرجت تداني عن العرض الزائل فلما سلم دفعتها الخيلاء والغرور الباطل إلى أن تدافع عن السمعة والأحدوثة.

ذلك اللقاء يوم بدر لم يكن بين طائفتين قليلة وكثيرة، وإنما كان بين عقيدتين حق وباطل، وإرادتين مصممة وواهنة، وحسب الحق في عالم الظهور أن يجد من يمثله، فإذا وجد سقطت معه مقاييس اللغة والكثرة والقلة من الحساب والاعتبار، ومثاله في عالم الشهود قطعة من الحديد توازن بأضعاف حجمها من القطن، ولما ظهرت هذه السنة عمليًّا في بدر، جاء القرآن بتقريرها علميًّا في سورة الأنفال:

{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}.

والسنة المستسرة هي وصفه طائفة بأنهم قوم لا يفقهون، وطائفة بأنها صابرة، وأصحاب محمد يوم بدر كانوا مؤمنين صابرين على الموت، والمؤمن الصابر لا يرى الموت كما يراه الناس هادمًا للذات وقاطعًا للشهوات، وإنما يراه بابًا للَّذَّات الخالدة الباقية.

أسوق هذه العبرة إلى إخواني المسلمين عمومًا وإلى قومي العرب خصوصًا، ليعلموا بماذا انتصرت الفئة القليلة يوم بدر، فيعلموا لماذا انكسرت فئتهم الكثيرة يوم فلسطين، وان في اليومين لآيات لقوم يعقلون وأين من يعقل أو من يعي؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>