للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مختالة فطردت الوهم، والمعاني تواردت منسالة فصقلت الفهم، بأمكن في ذهنه وأصدق بفكره مما سطر في صحائف فتح مكة.

ما يزال المسلمون بعون من الله، ما داموا يبتلجون من لفحات الدهر بهذه النفحات، وما زالوا مذكورين بلسان الصدق في الآخرين، ما دامت تجول في خواطرهم هذه الذكريات، وما زالوا مستمسكين بالحبال الواصلة لسلفهم ما داموا يتدارسون من تاريخهم الأول أمثال هذه الصفحات.

إنهم حين يجيلون في خواطرهم هذه الذكريات، يذكرون كيف نصر الله عبده، وكيف أعز جنده، وكيف هزم الأحزاب وحده، فتنقلهم الذكرى من عالم المسببات إلى عالم الأسباب، فتنصرف خواطرهم إلى البحث في سبب انتصار الحق على الباطل يوم الفتح الأكبر، وانتصار الخير فيه على الشر، وانتصار التوحيد على الشرك، فلا يجدونه إلّا في إخلاص التوحيد لله، وصدق العبودية له، ونذر الجندية في سبيله، وتلك هي الغايات التي أشار إليها من لا ينطق عن الهوى في استهلال خطبته يوم فتح مكة.

يذكرون فتح مكة، فيذكرون بذكره ما يصنع الإيمان المتين إذا آزره اليقين، فإسلام قريش كان الأمنية الأولى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من يوم بعث، فهم عشيرته الأقربون، وأول من يؤثرهم أصحاب النفوس الكبيرة بالخير هم الأقارب قرابة النسب أو قرابة الجوار، وقريش من محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمكان المكين من الجوارين، ويزيد هذه الأمنية في نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - ثبوتًا واستقرارًا أن العرب كلها كانت تنتظر بإسلامها- بعد تعميم الدعوة- إسلام قريش، لذلك بدأ بدعوتهم إلى الهدى الذي جاء به، ولبث ثلاث عشرة سنة لا يبيت فيهم إلّا داعيًا، ولا يصبح فيهم إلّا داعيًا، وفتح مكة كان الأمنية الثانية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من يوم هاجر إلى يثرب، فمكة دار ميلاده ومطلع بعثته وميدان دعوته، وقبلة صلاته، ومجلى مناسكه ومجمع مآثر قومه، ومتبوأ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فلما اضطر إلى الخروج كان خروجه منها وسيلة إلى الرجوع إليها، ولولا أمر ربه المنطوي على حكم كشف عنها الزمان بعد، لما فارقها ولما رضي بغيرها بديلًا، فقد كان يحبها حبين: حب الفطرة والنشأة وحب الدين والإرث، فلما حم الواقع واقتضت الحكمة الإلهية الخروج منها كان دائم الحنين إليها، دائم التشوق إلى غزوها، وتمكين الدين فيها، وجر قومه قريش إلى الجنة ولو بالسلاسل، منتظرًا إيذان ربه بذلك، وما تلك السرايا التي كان يبعث بها إلى جهات مكة بعد الاذن له بالقتال إلّا إرهاصات لفتح مكة والرجوع إلى موطن الميلاد والبعثة، وما تحويل القبلة من بيت المقدس إلى القبلة التي يرضاها محمد وهي مكة إلّا خطوة في سبيل الفتح، وما غزوة بدر إلّا مقدمة للفتح، وما عمرة الحديبية وما تبعها من صلح إلّا تدبير إلهي للفتح، وما عمرة القضاء إلّا سبيل لذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>