للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقائدان الأخوان تركيان، ولدا بجزيرة (ميديللي) وامتهنا البحارة واتخذاها وسيلة للجهاد في سبيل الله. فخاضا لجج البحر الأبيض وتمرّسا به وعرفا أعماقه وشطآنه، وتطوّعا بنقل طوائف من المسلمين الذين أجلاهم الإسبان من شواطئ الأندلس إلى شواطئ شمال افريقيا فأنقذوهم من حكم الرهبان ومحاكم التفتيش ومن التنصر الجبري أو الإحراق.

ولما أدرك الأخوان القائدان تداعي الدول المسيحية للإغارة على ثغور المسلمين كلها، وعزمها على استئصال الإسلام منها، اتفقا مع الأمير الحفصي في تونس إذ ذاك، على أن يجعلا من تونس قاعدة لأعمالهما البحرية، ودفاعهما عن المسلمين واسترجاع ما احتلته تلك الدول، وكانت الدولة الحفصية تلفظ أنفاسها الأخيرة، حتّى أن الإسبان احتلّوا عاصمتها تونس مرّتين، وأفحشوا بالنكاية في المسلمين، واتخذوا من جامع الزيتونة اصطبلًا لدوابهم.

كان من نتائج ذلك التداعي اللاتيني الكاثوليكي أن احتلّت دول أجنبية كثيرًا من الثغور الجزائرية، ومنها ثغر بجاية احتلّه الإسبان، وثغر جيجل الواقع شرقي بجاية، احتلّه الجنويون، فبدأ القائدان بإنقاذ بجاية من يد الإسبان، ودحرا الإسبانيين برًّا وبحرًا، ثم استنقذوا ثغر جيجل، وكان ذلك في سنة ١٥١٢ ميلادية، فكانت هذه السنة بداية تاريخ العهد التركي بالجزائر، وفي سنة ١٥١٦، احتلّ القائدان الأخوان مدينة الجزائر، واتخذا منها قاعدة ثابتة للهجوم والدفاع والعمليات الحربية بريّة وبحرية، وأهمها قمع القرصنة اللاتينية في البحر الأبيض، ومن هذه السنة أصبحت مدينة الجزائر عاصمة إلى الآن.

كانت نجدة القائدين لمدينة الجزائر تلبية لاستغاثة إسلامية بهما من شيخ تلك المدينة إذ ذاك سليم التومي، ولقي القائدان من رجال الجزائر ما يريدان من تأييد وإعانة وطاعة وثبات وبطولة، وكان رجال أسطول القائدين الذين يدير بهم المعارك البحرية لا يزيدون على ثمانمائة، فعزّزهم بثلاثة آلاف جندي جزائري، وبهذا العدد القليل مع الشجاعة وحسن التدبير، أوقع القائدان بالقرصان اللاتينيين الهزائم المأثورة وطردا حكوماتهم من جميع ما احتلّوه من ثغور تونس والجزائر في مدة قصيرة، وامتدّ ميدان النزال بين الفريقين برًّا وبحرًا من مدينة تلمسان وسواحلها وثغورها إلى تونس وسواحلها وشواطئها، وهو ميدان طوله أكثر من ألف وخمسمائة ميل.

من توفيق الله للقائدين التركيين، ومن دلائل إخلاصهما في نصر الإسلام، تسهيله احتلال مدينة الجزائر لهما، وجعلهما إياها قاعدة لأعمالهما، وإدارة حروبهما، ومركزًا لتنظيم الأمور الإدارية والعسكرية، فقد انتقل شأنهما من حال إلى حال تخالفها، وبعد أن كانا رئيسين بحريين يديران حركة غزو ونهب وتعرّض لأمثالهما ممن يحترف حرفتهما، لا يرجعان فيما يصنعان إلى أحد، حتى الدولة العثمانية لم يكونا يأتمران بأمرها ولا يرجعان

<<  <  ج: ص:  >  >>