للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اشتهر من الأفراد الذين رفعوا أصواتهم بالمطالبة بحق الجزائري في السنوات الأولى لما بعد الحرب، الأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر الكبير، وهو رجل شجاع جريء رجع أبوه الهاشمي من دمشق إلى الجزائر في حياة أبيه مغاضبًا له، واستوطن قرية صحراوية من الجنوب الشرقي لمقاطعة الجزائر تسمّى (بو سعادة) وسهّلت فرنسا لولده خالد الدخول في أشهر كلية حربية بفرنسا، وهي كلية (سانسير)، فتخرج منها برتبة ضابط (قبطان) (٥) وانخرط في كتيبة الخيّالة الجزائرية بتلك الرتبة، واشتهرت عنه صفات عسكرية ممتازة. فلما أحيل على المعاش في أواخر الحرب الأولى كان من أول من رفع صوته مطالبًا- في جرأة وإلحاح- بحقوق الجزائريين، وكان الظرف كما وصفنا مناسبًا، وأعانه على ذلك سمعته النَّسَبية وسمعته العسكرية، واقتحم المعارك الانتخابية للنيابة لأول ظهورها في الجزائر ففاز في جميعها، لما رأى المنتخبون فيه من الإقدام على فتح باب كان محرّمًا عليهم دخوله، وكانت فيه صفات أخرى يزنها العامة بالوزن الثقيل، وهي التي أحلته من نفوسهم في موضع الإكبار، منها أنه محافظ على الدين قولًا وعملًا، ومنها أنه شعبي في مظهره ومخبره، ومنها أنه خطيب مبين قوي الحجة، قوي التأثير، فخم المنطق باللغتين العربية العامية والفرنسية، وقد انضم إليه أفراد من كاملي الثقافة الفرنسية، ثم انقطعوا عنه لاستبداد كان فيه واعتداد بالرأي، وأنانية فظّة، وتهم أخرى يصح بعضها ولا يصح أكثرها، ومنها ما صدقتها خواتمه، وناوأه آخرون، فكان أولئك وهؤلاء مزيدًا في قوّته والتعصّب له، وطار ذكره وكثر الحديث عليه، فكان ذلك كله موثّرًا في طبقات الشعب تأثيره الحسن.

أحدث خالد حركة قوية كانت هي الحركة الأولى أو النواة لما تطورت إليه الحركة السياسية الوطنية في الجزائر، إلى درجة أن ضاقت به فرنسا ذرعًا، وعرضت عليه أثمانًا مما تشتري به الأحرار فأباها، فألزمته بالخروج من الجزائر إلى حيث يشاء، فارتحل بأهله إلى الاسكندرية، ثم انتقل منها إلى دمشق حيث تقطن البقية من أعمامه وبنو أعمامه، وكان فقيرًا لا يملك إلا مرتّبه العسكري من الخزينة الفرنسية، لأن أباه لم يرث شيئًا من تركة الأمير عبد القادر الواسعة، ولعلّ بعض أقاربه كانوا يعينونه على الحياة، ولكن مذهبه القديم في عداوة فرنسا قد تغيّر في أخريات أيامه، وكثرت فيه أقاويل سهل مداخلها إلى النفوس أن فرنسا كانت محتلة للشام إذ ذاك، فمن القريب أن ارتداد خالد عن وطنيته غير صحيح، أما في الجزائر فقد ترعرعت الوطنية بعده وقطعت المطالبة السياسية مراحل فغطت على اسمه وسمعته ومذهبه، وأي ذكر يبقى لمثل خالد مع ضحايا الوطنية وشهدائها؟

الأمير خالد هو أول سياسي في الجزائر اصطنع جريدة لخدمة سياسته، وقد سبقت جريدته جريدتان فتحتا الباب لنقد الإدارة ورجالها ولم تخدما سياسة مرسومة، أما خالد فقد أنشأ جريدة


٥) قبطان: كلمة فرنسية، يقابلها رتبة نقيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>