"الإقدام" باللسانين العربي والفرنسي لتكون سلاحه في السياسة الوطنية، وكانت هي الجريدة الجزائرية السياسية في السنين الأولى لبدء الحركة، وكانت لها مواقف في التشهير بالإدارة الحكومية الاستعمارية، وآثار في تنبيه الأذهان، والتخطيط الأول لمنهاج التربية السياسية، وكانت خطب خالد وجريدة خالد هما الصوت السياسي المردّد المحكي في ذلك الحين.
ولكن معاني تلك الخطب والمقالات أصبحت اليوم عبث لاعب بعد أن انتشر الوعي السياسي واستحكمت الآراء الوطنية، وصهرتها التضحيات وأريقت على جوانبها الدماء، وبرز فرسان الخطابة والكتابة في ميدانها. وعلى هذا كله، فهل يحسن بالجزائر أن تنسى فضل خالد؟ إن نسيته فإن التاريخ لا ينسى فضل البادئ، ولا يطمس المبادئ بالخواتم.
وظهر في أيام خالد رجلان كان لهما صوت مؤثّر في التكوين السياسي بالجزائر، كل في الإقليم الذي نشأ فيه، ولكن لم تكن لهما مشايعة لخالد تقوّيه أو تظهره بمظهر زعيم سياسي لمبدإ أو لطائفة، أو تظهرهم جميعًا كبداية لحزب ذي نهج معروف.
أحد الرجلين هو الشيخ الحاج محمد بن رحّال، من ذوي البيوتات العريقة في بلدة "ندرومة" بالشمال الغربي لمقاطعة وهران، وندرومة هي القرية التي خرج من أحوازها عبد المؤمن بن علي الكومي خليفة المهدي بن تومرت ومؤسّس دولة المُوحّدِين العظيمة وأحد الذين نظموا الشمال الأفريقي ومعه الأندلس، في مملكة واحدة.
والشيخ الحاج محمد بن رحّال كان زميلًا للأمير خالد في النيابة بالمجلس المالي الجزائري، وكان أقرب الناس إلى تأييده، ولكنه كان رجلًا بعيد النظر واقعيًا ينظر إلى الأشياء بعين الحكيم لا بعين السياسي، وينظر إلى الجزائريين بعين المسلم فيرى أنهم بلاء على أنفسهم قبل بلاء الاستعمار، وأن الواجب أن يصلحوا أنفسهم بجمع الكلمة والمحافظة على الدين، إلى غير ذلك من أنواع الإصلاح الداخلي الممكن، وكان- رحمه الله- محترمًا من جميع العناصر، يتمتعّ بجلال البيت، وجلال السن، وجلال الدين، وجلال العلم، وكان وقور الطلعة، نيّر الشيبة، محافظًا على تقاليد البيوتات في اللباس العربي والعمامة وجميع طرز الحياة، وكان خطيبًا مفوّهًا باللغة الفرنسية، جهيرًا بكلمة الحق، مسدّد الرأي، ولم تزل خطبه الفرنسية محفوظة كنماذج عالية من الأدب وأنماط غالية في الرأي.
ولقد سمعته في حدود سنة ١٩٢١ ميلادية يخطب في المجلس المالي الجزائري بالفرنسية، وأنا لا أفقه كلمة منها، فرأيت السامعين خاشعين منصتين، من نوّاب مسلمين وأوربيين وصحافيين ونظارة، كأنما على رؤوسهم الطير، مع أن حديثه كان شرحًا ودفاعًا في نقطة مالية، في ضرائب حظ الأهالي منها وافر، ومصالح حظهم فيها مغبون، وقال لي أحد الحاضرين من أبناء ذلك اللسان وممن يحسن العربية: ان هذا الرجل يسحر ببيانه ويؤثّر به