في خصومه، وكانت تحفه في موقفه ذلك هالة من الجلال، يبدو كأنه قطعة من الثلج: وجه جميل ولحية بيضاء وألبسة صوفية وطنية بيضاء.
ويجتمع ابن رحّال والأمير خالد في عدة خلال، منها علو الهمّة الموروث عن البيت، والصدق الموروث من الدين، وإن كان وزن ابن رحّال في هذا أرجح، ومنها الشعبية الصميمة البارزة في كل مخبر منهما وكل مظهر، ومنها البيان وقوّة الحجة والاقتدار على الإقناع وامتلاك ناصية اللسان الفرنسي.
ويفترق الرجلان في خصال: فابن رحّال هيّن لين هشّ يجمع الصفات التي وردت في المؤمن، ما لم يصل الأمر إلى الدين، فإذا مسّ الدين استحال ذلك الهدوء إلى غضبة لا يقوم لها شيء؛ والأمير يمتاز بالصلابة، ولا يخلو من الاعتداد بنفسه وبنسبه إلى الأمير عبد القادر، وقد يبدو من بعض بداوته أن نفسه تنطوي على مطمع بعيد وهو أن يصبح ملكًا على الجزائر، وهذه إحدى الثغر التي نفذ منها خصومه إلى الطعن في صدق وطنيته. ولعلّه لو طالت حياته السياسية، ولم تفسدها عليه التطورات الوطنية الجارفة، وانتهت به إلى المساومة والمفاوضة، لرضي بلقب ملك ولو تحت حماية فرنسا، فإن أصحاب النزعات الملكية، المفتونين بالألقاب الموروثة، أقرب الناس إلى الزلل. ويمتاز الشيخ ابن رحّال بالحكمة والأناة وبُعد النظر وحسن التقدير للأشياء والتزام الصدق مع العدو والصديق، وعدم الاغرار بالبيت والجاه والمنصب.
وثاني الرجلين المشاركين للأمير خالد في بدء الحركة السياسية هو الدكتور موسى، وهو دكتور في الطب بمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الكبرى المنسوبة إليها، ولم تكن للدكتور موسى شهرة الأمير خالد، ولا سمعة ابن رحّال، ولا بيت كبيتهما، ولكنه كان جريئًا مقدامًا، فجرّأ الألسنة على النطق، وساهم في نزع هيبة الاستعمار ورهبته من النفوس، أما الشعبية والتديّن والبيت والنسب وهي الخلال التي اشترك فيها الرجلان فإن الدكتور خالٍ منها، وإنما اشتهر بشجاعته ورفع صوته مطالبًا بحقوق الجزائر السياسية، فتعلّق به بعض شباب ذلك العهد وأصبحوا تلامذة له وأنصارًا لمذهبه وأتباعًا. ولتعلّق الشباب به، وهو لِدَتُهُم- أو قريب منهم في السن- كوّن شبه مدرسة سياسية بقيت بعد موته إلى أن اتصلت بمبدإ الحركة السياسية المنظّمة وكانت إحدى قواعدها.
أما طريقة ابن رحّال والأمير خالد فلم تتكوّن لها مدرسة للتخريج السياسي أو الوطني، فماتت طريقة ابن رحّال بموته، وخمدت حركة الأمير خالد بإخراجه من الجزائر، ولم يرث أحد عنهما مشربهما في السياسة، وإن بقي اسمهما عامرًا لحقبة من أوائل التاريخ السياسي الحديث في الجزائر.
وبالجملة فلا يستطيع المؤرّخ المنصف أن يغفل هذه الأسماء الثلاثة اللامعة، لأن إغفالها طي لعدة صحائف من هذا التاريخ، وإنما يجب على المؤرّخ أن يعطي كل واحد