للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منهم حقّه بالقسط، فإن لا يكونوا سواء في أشياء، فهم سواء في فتح الباب وإحياء الشعور، وتنبيه النزعة الوطنية، رحمهم الله جميعًا.

كان هذا كله في أوائل العقد الثالث من هذا القرن، وكان هذا البذر مسايرًا في نموّه لنمو الشعور العام في الشعب، وقد يحار المفكّر لأول وهلة في نقطة تبدو غامضة وهي: أيّهما كان المؤثر في الآخر والمغذّي له؟ هل شعور الشعب هو الذي كان يحرّك السياسيين، أم أن أصوات السياسيين هي التي كانت تحرّك الشعب وتهزّه فتثير إحساسه وتنبّه شعوره؟ والحق أن الشعوب التي كمل نضجها أو قارب، يتفاعل فيها إحساس الساسة بإحساسها ويتجاوبان، وقد يطغى أحدهما على الآخر حينما يندفع الشعب إلى مهواة على غير هدى فيردّه الساسة الصالحون إلى الجادة، أو ينزلق الساسة في عمايتهم وضلالهم فتردّهم صيحات الشعب إلى الصواب. وإنما نقول هذا في الساسة الناضجين الذين لا تختلف بهم السبل ولا تعمى عليهم وجوه الرأي والمصلحة إلا قليلًا وعن اجتهاد، وفي الشعوب الرشيدة أو المراهقة للرشد، أما شعبنا وأمثاله من الشعوب البدائية التي هي في عقابيل من أمراض اجتماعية، ولم يتمّ صحوها من سكر الجهل وسكر الغفلة وسكر التقليد، فإن هذا التفاعل والتجاوب بينها وبين قادتها السياسيين يكون مفقودًا في هذه الفترة، وليست هذه الفترة فصل نباته، والغالب على الشعوب البدائية في السياسة أن تكون على بقية من وثنية، أصنامها الشخصيات، فيكون إحساسها تابعًا لإحساسهم وحركاتهم منوطة بتحريكهم ولو إلى الضياع والشر، وهذه هي الحالة السائدة في شرقنا، وقد تفطن الغربيون لهذه النقيصة فينا، بل إلى هذه الثغرة الواسعة في نفوسنا، فأصبحوا ينصبون لنا التماثيل من الرجال ويحكموننا بها ويصرفون حياتنا من ورائها لمصلحتهم.

لذلك يكون من الطبيعي أن الشعب مع شعوره العام بوجوده وبتبدّل الحالة ولزوم تغيير الأوضاع، بدأ يتحرّك بنفاذ ما يصل إليه من إجراءات أولئك الأفراد الذين ذكرنا أسماءهم وبمن أتى بعدهم، لأن هذه الفترة التي نتحدّث عليها لم تنته بانتهاء حياة أولئك الأشخاص، وإنما تطوّرت واستحكمت وانتقلت من نطاق الشخصيات إلى نطاق المبادئ، ومن حركة سياسية كلامية إلى حركة وطنية عملية تعتمد على الضحايا والدماء، ومن أسماء الأشخاص إلى أسماء الأحزاب المنظّمة، وكان تطوّرها سريعًا مدهشًا للاستعمار نفسه.

وظهر في الميدان السياسي لأوائل هذه الفترة رجل غريب الأطوار وهو الدكتور صالح ابن جلّول، من البيوتات المتوسطة الشهرة بمدينة قسنطينة وله عرق من جهة الأمومة يتصل بأحد بايات قسنطينة الأتراك، لعلّه هو الذي نقل بيته من الخمول إلى شيء من النباهة، فظهر وارثًا لحركة الدكتور موسى ومتوسّعًا فيها بما يقتضيه الحال وتمليه التأثّرات المتزايدة، وابتدأ جريئًا مدوي الصوت، واقتحم معارك الانتخابات النيابية ففاز فيها بقوة الشعب، واكتسح هو وأصحابه بقايا النوّاب الذين كانت تعيّنهم فرنسا تعيينًا، وكان اقتحامه مع أصحابه لمجالس

<<  <  ج: ص:  >  >>