للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النيابات فتحًا جديدًا في النيابة الأهلية أفشى فيها الحركة والحياة، وأشعرها بشيء من الاعتبار والاعتزاز، وبدأت الموضوعات الأهلية الحسّاسة تطرق على منابر النيابة العَمَالية وتثار ويدافع عنها فتحرج فيها الحكومة أحيانًا، بعد أن كانت تلك الموضوعات كقبر المسلم لا ينبش ولا يمشى عليه ... وبالجملة فقد كانت نيابة الدكتور ابن جلّول إنشاء للمعارضة البرلمانية في مجالس النيابات الجزائرية، ويصحّ للمؤرّخ المنصف أن يقول: ان ابن جلول قاد السياسة الجزائرية في السنوات الأولى بقوة وجرأة ارتاعت لها فرنسا، وخرج بها من الميدان الفردي، فانضمّ إليه- لأول مرة- في تاريخ الاستعمار بالجزائر، جماعة من النوّاب الأحرار الذين ظهروا في فجر اليقظة، وغالبهم دكاترة وحقوقيون فتكوّنت منهم هيئة تشبه الحزب السياسي تحت اسم "اتحاد النوّاب"، وكان هذا الاتحاد خاصًّا بعمالة قسنطينة، ولكنه كان في طريقه إلى التعميم في الجزائر ووهران، لأن اسم ابن جلول وزعامته السياسية تجاوزتا مقاطعة قسنطينة إلى المقاطعتين الأخريين، ولكن الرجل تملّكه الغرور وتذبذبت سياسته بين الفردية والأنانية، وبين الوطنية التي تذوب فيها الفردية والأنانية، وتكشف عن خلال كلها غميزة في وطنية السياسي، وظهر بعده سياسيون أصدق منه وطنية، وأثبت فيها لونًا، وإن كانوا أقل منه ثقافة وعلمًا، فضاق بهم ذرعًا، ولم تتّسع أنانيته للتعاون معهم كما هو الواجب على السياسي المخلص، وكان أقوى الأسباب في سقوطه اصطدامه بجمعية العلماء وهي التي كوّنته وأذاعت اسمه وعبّدت له الطريق إلى النيابات، فأرادت الجمعية أن تستصلحه فلم يصلح، فنبذت إليه على سواء، ورأت أن سكوتها عليه غش للأمة به فأشعرتها بذلك فانفضّت الأمة من حوله، وهو الآن عضو في البرلمان الفرنسي يقارض فرنسا تأييدًا بتأييد، تشدّ أزره في الانتخابات، ويشدّ أزرها بأن صوته دائمًا معها، فهي حين تشتريه إنما تشتري صوتًا لا شخصًا، ونعوذ بالله من مصارع السوء.

وفي هذا الرجل خصلة لا نعرفها إلا نحن الذين لابسناه مؤيدين وناصحين ومستصلحين ومنابذين، وهي أنه شجاع اللسان جبان القلب، مذبذب الرأي بين ذلك، وانه قبل ذلك رجل سياسة لا وطنية، ونصفه بالسياسي تجاوزًا، لأن سياسته من النوع النيابي الذي يعتمد على الخطابة والمعارضة وإثارة المناقشات العقيمة.

قلنا انه في أوائل عهد الدكتور ابن جلّول ارتفع شأن النيابة الأهلية، ونقول إن ميدانها اتّسع قليلًا، وكأن الحكومة الاستعمارية التي تدرس نفسية الشعوب قبل كل شيء لتبني معاملتها لها على أساس نفسي، كأنها درست النفسية الجزائرية العامة وعرفت مواطن الضعف ومداخل الشر إليها، فرأت أن الانتخابات النيابية هي الفتنة الكبرى للزعماء وأتباعهم معًا، ومدعاة لتنافسهم، ومجلبة للحزازات بينهم، فنصبتها صنمًا يصطرعون حوله، ويتعصّب كل فريق منهم لصاحبه، فتشتدّ المصارعة وتضيع الأموال والعلائق، وتنشأ العداوة بين الأُسر

<<  <  ج: ص:  >  >>