على أنهم بإعطائهم هذه العناية للانتخابات توهّموا وأوهموا أن النيابة هي السياسة أو هي غاية السياسة قياسًا لشعبهم على الشعب الفرنسي، وعلّتهم في ذلك أنهم يفهمون النيابة فهمًا جمهوريًا ممّا يقرأونه في الكتب، لا فهمًا استعمارًيا مما يقرأونه في كتاب الواقع. والنائب بالمعنى الجمهوري يمثّل الشعب الحرّ الذي انتخبه انتخابًا حرًا ليحرس حقوقه ومصالحه من الحكومة، ويحامي عنها، فصوته هو صوت ذلك الشعب، أما النائب بالمعنى الاستعماري، فهو عامر (خانة) كما يقولون، وانتخابه صوري، وهو نائب الحكومة لا نائب الشعب، وقصارى أمره إن كان شعبيًا، وكان انتخابه شعبيًا، أن يساوم بصوته حينما تحتاج الحكومة إلى صوته، وقلّما يكون هذا.
زعماؤنا السياسيون بالجزائر- سامحهم الله- تهوّروا في الانتخابات وفتنتها وعداوتها، نتيجة لذلك الفهم الخاطئ فتهوّروا- تبعًا لذلك- في النيابات العرجاء الناقصة، وعلم الاستعمار منهم ذلك فزادهم إغراء بها، وتشويقًا إليها، وكلّما رأى منهم افتتانًا بها زاد إمعانًا في تزويرها ومسخها، وقد ظهرت الحقائق لعقلاء الأمة، فظهر لهم معها أن هؤلاء الزعماء متهافتون على كراسي النيابة طمعًا في مرتباتها الضخمة وامتيازاتها الشخصية، من ركوب مجاني ومقابلات رسمية وما أشبه هذا من هذه التوافه التي يترفع عنها ذوو الهمم، فضلًا عن رجال السياسة، الذين ينظر إليهم الناس نظرة الإمامة والقدوة الصالحة، وهذه النظرة الناقصة من عقلاء الأمة لرجال السياسة هي بعض مقاصد الاستعمار وغاياته، فإن مما يفيده ارتفاع الثقة بين الساسة وأتباع مبادئهم.
ويدخل النائب ذو المبدإ السياسي هذه المجالس فيضيع صوته الوطني في ضجيج أصوات الأكثرية المناوئة له، ويضيع تمثيله للشعب بين من يسمّيهم العرف الوطني في الجزائر (بني وي وي)(٧) فكلما ارتفع صوت من نائب حر عارضه الاستعمار بعشرات الأصوات من زملائه وبني جلدته بدعوى أنهم ممثّلون للشعب أيضًا، وهم جماعة وهو واحد، (ويد الاستعمار مع الجماعة). وهكذا أصبحت الانتخابات والنيابات في الجزائر مهزلة مضحكة مبكية، وأصبح النوّاب الأحرار أصحاب المبادئ الحزبية صورًا لا قيمة لها إلا في تكميل النصاب في الكراسي. ولو أن رجالنا السياسيين، ورؤساء الأحزاب بصفة خاصة، والمثقفين منهم ثقافة عالية بصفة أخصّ، صرفوا عنايتهم إلى تربية الأمة تربية سياسية وطنية صحيحة عملية لكانت أعمالهم أعود بالخير والنفع على الأمة الجزائرية من جميع الانتخابات والنيابات.
ورأي في الزعيم السياسي المثقف في أمة كأممنا الشرقية- ولا أحاشي الأمة المصرية- أنه يجب عليه أن يترفّع عن الميادين التي تشغله عن المهم، وتلهيه بالصغائر،
٧) بني وِي وِي: أبناء "نعم .. نعم " لأنهم كانوا ينفذون ويطبّقون ويساندون كل ما تأمرهم به السلطات الفرنسية.