للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتدسس بعض المتنطعين من الفرس إلى مكامن العقائد الإسلامية لإفسادها، لا يقلّ عن تدسّس بعضهم إلى مجامع السياسة، وبعضهم إلى فضائل المجتمع وآدابها لإفسادها، ومبنى هذه النحلة في ظاهر أمرها التبتّل والانقطاع للعبادات التي جاء بها الإسلام، ومجاهدة النفس من طريق الرياضة بفطمها عن الشهوات حتى تصفو الروح وتشف وترق وتتأهل لمشارفة المَلإ الأعلى، وتكون بمقربة من أفق النبوّة، وتتذوّق لذة العبادة الروحية، وقد افترق النازعون إلى هذه النزعة من أول خطوة فرقًا. وذهبوا فيها مذاهب، من القصد الذي يمثّله أبو القاسم الجنيد، إلى الغلو الذي يمثّله أبو منصور الحلّاج، إلى ما بين هذين الطرفين، وكانت لأئمة السنّة وحماتها- الواقفين عند حدودها ومقاصدها ومأثوراتها- مواقف مع الحاملين لهذه النزعة، وموازين يزنون بها أعمالهم وآراءهم وما يبدر على ألسنتهم من القول فيها، ولسان هذه الموازين هو صريح الكتاب وصحيح السنّة، وكانت في أول ظهورها بسيطة تنحصر في الخلوة للعبادة أو الجلوس لإرشاد وتربية من يشهد مجالسهم، ثم استفحل أمرها فاستحالت علمًا مستقلًا، يشكّل معجمًا كاملًا للاصطلاحات، ودوّنت فيها الدواوين التي تحلّل وتشرح، وتصف الألوان الباطنية للنفس، وتبيّن الطريق الموصل إلى الله والوسيلة المؤدية للسعادة وكيفية الخلاص من مضائق هذه الطريق وأوعارها، ثم انتقلت في القرون الوسطى من تلك الأعمال التي تستر أصحابها، إلى الأقوال التي تفضحهم، فخاضوا في شرح مغيبات، وأفاضوا في جدال مكشوف بينهم وبين خصومهم، وكانوا سببًا من الأسباب الأصيلة في شق الأمة شقّين: أنصارًا ومنكرين، وضاعت في هذا الضجيج ثمرة هذه النحلة وهي رياضة النفس اللجوج على العبادة وقمع نزواتها البدنية وأصبحت هذه النحلة أقوالًا تدافع، يقولها من لا يفقه لها معنى، فضلًا عن أن تصطبغ بها نفسه، والحق في هذه النزعة أنها صبغة روحية مرجوحة في ميزان الشرع وأحكامه، وإنما يقبل منها ما يساير المأثور، ولا يجافي المعروف من هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإن الدين قد تكامل بختام الوحي، والزيادة فيه بعد ذلك كالنقص منه كلاهما منكر، وكلاهما مرفوض، وما لم يكن يومئذٍ دينا فليس بدين بعد ذلك.

ولكن تلك النزعة التي عفا رسمها، بقي اسمها، ولم يبقَ بقاءً تاريخيًا للعظة والاعتبار، وإنما بقي فتنة بين المسلمين، وميدانا لعلمائهم يتراشقون فيه ويتنازعون، ولعامتهم يلهون فيه ويلعبون، ويضلون بسببه عن حقائق دينهم ودنياهم.

وانتهى بها الأمر في القرون الأخيرة إلى نسبة مجردة من جميع المعاني، ينتسب إليها - تقحمًا- كل من هبّ ودبّ، لا يطلبها من طريق علم ولا تربية، ولكن من طريق الشعوذة والحيلة، ثم تدلّت دركة أخرى فأصبحت وسيلة معاش ومصيدة لابتزاز أموال العامة وانتهاكًا لأعراضهم، وهناك التقت مع الاستعمار في طريق واحد، فتعارفا وتعاهدا على الولاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>