للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اِبحثوا في تاريخ الاستعمار العام، واستقصوا أنواع الأسلحة التي فتك بها في الشعوب، تجدوا فتكها في استعمال هذا النوع الذي يسمّى "الطرق الصوفية"، وإذا خفي هذا في الشرق، أو لم تظهر آثاره جلية في الاستعمار الانكليزي، فإن الاستعمار الفرنسي ما رست قواعده في الجزائر وفي شمال أفريقيا على العموم وفي أفريقيا الغربية وفي أفريقيا الوسطى إلا على الطرق الصوفية وبواسطتها، ولقد قال قائد عسكري فرنسي معروف، كلمة أحاطت بالمعنى من جميع أطرافه قال: "إن كسب شيخ طريقة صوفية أنفع لنا من تجهيز جيش كامل، وقد يكونون ملايين، ولو اعتمدنا في إخضاعهم على الأموال والجيوش لما أفادتنا ما تفيده تلك الكلمة الواحدة من الشيخ، على أن الخضوع لقوّتنا لا تؤمن عواقبه لأنه ليس من القلب، أما كلمة الشيخ فإنها تجلب لنا القلوب والأبدان والأموال أيضًا".

هذا معنى كلمة القائد الفرنسي وشرحها، ولعمري إنها لكلمة تكشف الغطاء عن حقيقة ما زال كثير من إخواننا الشرقيين منها في شك مريب، وهم لا يدرون أن أول من خرج عن جماعة الأمير عبد القادر الجزائري في أيام جهاده شيخ طريقة معروف، وأن من أكبر أسباب هزيمته استعانة فرنسا عليه بمشائخ الطرق الصوفية، وإعلان كثير من أتباعهم الخضوع لفرنسا، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل؟ وان تاريخ تلك الوقائع لم يزل مداده طريًا، وما زال الاستعمار بالجزائر يسمّي هؤلاء المشائخ "أحباب فرنسا".

وإني أتعجّل لكم البشرى بأن أحفاد أولئك المشائخ- إلا ما قلّ- أصبحوا من أكبر الناقمين على الاستعمار، بل أصبح بعضهم من الغلاة في الوطنية، وفي الصفوف الأولى من أنصار العلم والتعليم، والداعين إليهما، والعاملين على نشرهما بالجاه والمال، ولا تكاد توجد مدرسة من مدارس جمعية العلماء خالية من عدد من أولادهم متعلمين أو معلّمين، ومنهم كثير في الجامعات الإسلامية: القرويين والزيتونة والأزهر.

اتفقنا على البدء بالاستعمار الروحي الداخلي، ونحن نعلم قوّته والتفاف ٧٠ بالمائة من الأمة على الأقل حوله، ومعه الحول والطول. فالأموال وفيرة، والجاه عريض، والحكومة تقارضه تأييدًا بتأييد، وذلك العدد العديد من الأمة يسبح بحمده، ويعتقد أن تلك الطرق كلها طريق إلى الجنة، وأن تلك البدع والضلالات هي الدين، بل هي صميم الدين، وأن كلمة نقد في أولئك المشائخ ولو عصوا الله وفعلوا المنكرات قد تؤدي بصاحبها إلى الكفر، والخسار الدنيوي والأخروي وحلول النقم السماوية، ونعلم- كذلك- ضعفنا إلا بالإيمان وقلة عددنا، فنحن طائفة تعد على أصابع اليد الواحدة، والاستعمار لنا بالمرصاد، يرقب حركاتنا ويحسب أنفاسنا، ويعتبر أننا عنصر خطر عليه، نريد أن نحصي ما أمات، ونهدم ما بنى، ونبني ما هدم، كانت الحكمة لاختيارنا الميدان الأول للهجوم، أن موضوع النزاع ديني، ونحن علماء دين يعترف لنا بالإمامة العلمية حتى الاستعمار وأعوانه، ولا يستطيع

<<  <  ج: ص:  >  >>