للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحكم الله له بالنصر، وقد اطردت معه سنّة الله في نصرة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، بما آمن وصبر وضحّى، ولقد أصبح يناجز عدوّه فيجرّعه الغصص ويكايده فيفوّت عليه الفرص، غير أن الزمن طويل، والحرب ليست مركب كل يوم، فإذا كانت ذخيرة الشعب الجزائري من الإيمان لا حدّ لها، ورصيده من الشجاعة والصبر لا ينفد، فإن طاقته المادية معرّضة للنفاد، والعدوّ لدود لئيم، وله أعوان على الشر، وصريخ قريب في البرّ والبحر. وإخوانكم الجزائريون مفصولون عن بني العمومة في هذا الشرق، باللجج الخضر، والفلوات الغبر، لا يجتمعون بهم في صعيد، ولا يأوون منهم إلى ركن شديد، ولا يعتضدون منهم بباع مديد، أو برأي سديد، أو بعون مفيد.

وإخوانكم الجزائريون ينطوون على اعتبارات موروثة، تحُلّ في مستقر العقيدة من نفوسهم، منها أنهم إخوانكم في الدين، تجمعهم بكم عقائده وشعائره وآدابه، وتجمعهم بكم هذه اللغة التي غيّرت التاريخ، وبنت الحضارة الإنسانية طبقًا عن طبق، وكانت لسانها المعبّر أحقابًا مديدة. وتجمعهم بكم خصائص العروبة، وشمائل العرب، الذين انحدرتم جميعًا من أصلابهم، واتصلتم جميعًا بأنسابهم، فهم حين يستصرخونكم، إنما يستصرخون فيكم هذه الوشائج والعروق والدماء والأرحام.

وتالله لو أن ذاهبًا ذهب من العراق، على هذه الصحارى المتصلة، فانتهى به المطاف إلى مخارم الأطلس الأشم، ثم أرهف سمعه لما يحمله الأثير من قمم جبال الأوراس لسمع جميع الأصوات، إلا صوتين لم يركّبا في طبع الجزائريين، هما صوت البكاء، وصوت المكاء، بكاء الهالع، ومكاء الخالع. ولكنه يسمع الحنين، حنين الأبطال، إلى النزال، ويسمع الأنين، أنين العاجزين لخلوّ الراحة، لا لألم الجراحة. ويسمع هينمة التكبير، عند النفير، ويسمع صوت الاستصراخ لبني العمومة في هذا الشرق.

ولعمر العروبة وما أنجبت! إنها لكلمات، تنطوي على ذكريات. فلقد كان يستغيث بها الطفل العربي فتعقد لها المحافل، وتجهّز الجحافل. وتقولها المرأة العربية فيهيج لها العرق الحرّ، ويتأجج الحفاظ المرّ.

أيها الإخوة الكرام:

إن ثورة الجزائر في حقيقتها العليا صفحة ذهبية في تاريخ العروبة الطويل، وقبسة نورانية من مشرق الإسلام، ونفحة علوية من أرواح الفاتحين الأولين: عقبة، وأي المهاجر، وحسّان، وموسى، وطارق، وإن أعمال إخوانكم المجاهدين الجزائريين أعمال وصلت أمجاد العرب في الآخرين بأمجادهم في الأولين، وإن مواقف الشعب الجزائري في هذه الثورة كلها حسنات ذهبت بسيئات العرب، وكفرت عن جميع ما اجترموه من ذنوب في جنب الإسلام والعروبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>