للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بجبل أوراس، ولقد أعان الإسلام على سرعة الانتشار يُسْر مدخله إلى النفوس، ومساوقة بساطته للبساطة التي تتسم بها الطبيعة البربرية إذ ذاك.

ثم جاءت موجة الغارة الهلالية في أواسط المائة الخامسة للهجرة فغمرت سهول الجزائر بعد سهول تونس، وكان من آثارها الصالحة في الجزائر- على كثرة الأضرار والمفاسد التي تصحب التغلب عادة- أن عرّبتها ومكّنت لِلِّسان العربي فيها، وما صحا الفريقان من غمرة الانتصار والانكسار، حتى ذكروا أن الإسلام يجمعهم ففاءوا إلى السكينة وركنوا إلى السلم، وأووا إلى كنف الأخوّة الإسلامية فتصاهروا وتجاوروا وتناصروا وتقاسموا رقاع الأرض فوسعتهم جميعًا، وبسطت اللغة العربية سلطانها على ألسنتهم وأخيلتهم وأفكارهم فأهلتهم إلى العلم الصحيح والأدب والفن واصطنعوها ترجمانًا لأفكارهم، ولم يشهد تاريخ الإسلام أمّة من الأمم الأعجمية التي دانت به وخضعت أرواحها لسلطانه تنازلت عن لسانها للّسان العربي عن طوع واختيار، وتنازلت عن روحانياتها لدين الإسلام إلا أمّة البربر، فقد نزلت عن لغتها ومقوّماتها كلها إلى الإسلام ولغته، وبذلك أصبحت الأمّة البربرية كلها أمة عربية، ويشهد لذلك أنه قامت في الشمال الافريقي دول بربرية الاسم والعصبية لأول العهد الإسلامي ووسطه يرأسها ملوك عظام من صميم البربر، وخدمهم بالشعر شعراء فحول في الأغراض الملوكية بالمدح والتمجيد وكافأوهم بسنيّ الصلات والجوائز، وما علمنا قط أن شاعرًا خدمهم بالشعر البربري إلا في الفرط والندرة، ولو كان لنقل إلينا خبره لتوفّر الدواعي على نقله.

الأمة الجزائرية اليوم لم تزل على عهد أولئك الأسلاف الذين ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية وشادوا لها من صروح العلم ما بقيت آثاره مشهودة إلى اليوم في قلعة بني حماد، وتيهرت، وبجاية، وتلمسان، وأنجبوا لها أئمة أعلامًا في التشريع والتاريخ والأدب والفن وعلوم اللسان العربي، فالأخلاف اليوم على عهد أولئك الأسلاف، لم يتنكروا للإسلام، ولم يجفوا العروبة على كثرة ما ابتلاهم به الدهر من صروفه ومصائبه، ودهاهم فتنه وويلاته، من شمال الأبيض المتوسط من حروب، وعلى كثرة ما صبّ عليهم جار السوء من العرق اللاتيني من غارات، وهبّ عليهم من تِلْقائِه من أعاصير مكتسحة، فقد كانوا يخرجون من تلك الأعاصير الجارفة أصفى ما يكونون جوهرًا، وأثبت مِمَّا كانوا عزائم وبصائر.

أحفاد أولئك الأجداد، وفروع تلك الأصول هم الذين يُحْيُون اليوم في الجزائر مآثر الأسلاف، ويقيمون الشواهد الحية على بطولتهم واستماتتهم في الذياد عن حرية وطنهم، فيشنونها ثورة شعواء أطارت ألباب طغاة الاستعمار وأوليائه في كل ركن من أركان المعمورة، ويقاتلون جيشًا وفير العدد متكامل العُدد، ولكنه مستعار الأسلحة والقلوب. يقاتلون أدعياء العلم والمدنية وحُثالة العنصر اللاتيني، وبقية السيوف الجرمانية من حربين لم يفصل بينهما من الزمن إلّا حاجز يسير.

<<  <  ج: ص:  >  >>