للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أيها الإخوان:

أحيي هذه الذكرى الجميلة، ذكرى جمال الدين الأفغاني، تحية فيها معنى الإجلال والإكبار، ومعنى الاعتزاز والافتخار للمقيمين لذكراه.

أحيي الذين فكّروا فيها، والذين أقاموها وأحيوها، والذين سعوا لها وحضروها، والذين تكلموا فيها وشرحوها، فجلوا جوانب سيرة هذا العبقري، وكشفوا عن مكامن العِبَر وعن وجوه التأسي فيها.

إن هذه الذكريات التي تُقيمها الأمم لعظمائها لا تنفع الأموات، لأنهم قد خرجوا من الدنيا وفرغوا من تبعاتها وتكاليفها، وتركوا لمن بعدهم من أعمالهم ما ينير لهم سبل الحياة، بعد أن أدّوا واجبهم لأممهم خيرًا ونفعًا وجمالًا، وقاموا لعقائدهم ومباديهم ما يجب لها من إبانة وتثبيت وتمكين في الأرض، وإنما تنفع الأحياء لأنها تجعلهم متصلين دائمًا بعظمائهم وسلفهم الصالح حتى كأنهم بينهم أحياء يأمرون وينهون، ويعظون ويرشدون ويردون الضالّ عن ضلالته، ويوقظون الغافل من غفلته، ولو أننا عرفنا كيف نستفيد من حفلات المولد النبوي التي تقام آلاف المرات في كل سنة، وطهرناها من المجانة واللهو والعبث والمنكرات، التي تبعدنا عن الله وتحجبنا عن حقائق الدين التي جاء بها صاحب الذكرى، ووجّهناها إلى تلك المعاني السامية المطربة في سيرته العملية، ورمينا بها إلى الغايات التي هي حقيقة الإسلام وأخلاق المسلم- لو فعلنا ذلك- لنقلناها من باب البدع المنكرة إلى باب السنن الاجتماعية الصالحة المحمودة، ولكان منها في كل مظلمة شعاع هاد، وفي كل معضلة نور نمشي به في الظلمات فلا نخاف ضلالًا ولا زيغًا.

إن من البر بأنفسنا أن نذكر- مع كل شارقة- عظماءنا ومصلحينا الذين كان لهم أثر مشرق في تاريخنا، وأن نحيي ذكرياتهم لنحيا بها ونأخذ العبر منها ونجعلها دليلنا إذا أظلمت علينا السبل، وقدوتنا إذا أعوزنا الإمام القائد.

العلماء الربّانيون في هذه الأمة ثلّة من الأولين، وقليل من الآخرين، والحكماء في هذه القلة قلة أخرى، لا تلد القرون منهم إلا الواحد بعد الواحد، ولا يجيء الواحد إلى الوجود إلا بعد فترة من تحكّم الأهواء واستيلاء الخمول، وسفه القيادة، والبعد عن هداية الدين، والجهل بأمور الدنيا وبالصلة الوثيقة بينها وبين الدين، وانطماس المعالم المنصوبة والأعلام الهادية فيهما، فيكون ظهوره تجديدًا للدين والدنيا معًا، ودعوة للعزة فيهما معًا، وإصلاحًا لما أفسدته الغفلة منهما معًا، ورمًّا لما تشعث من بنائهما معًا.

ومن هذا القليل جمال الدين الأفغاني.

<<  <  ج: ص:  >  >>