للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأفغاني ينظر إليه الخليون الفارغون من علماء القشور والرسوم على أنه ليس عالمًا دينيًا بالمعنى الذي يفهمونه من الدين ومن العالم الديني الذي هو عندهم حاكي أقوال وحافظ اصطلاحات وراوي حكايات، يجلس في حلقته فيفيض في الحلال والحرام وفي الزهد والرقائق بكلام مقطوع الصلة بالقلب، مقصور على اللسان، فهو لا يؤثر، ومن ثم فهو مقصور على سمع السامع فهو لا يتأثر، وليس فيه إلا قال فلان، وقال فلان، وليس منه قلت، ولا ارتأيت، ولا فكرت، حتى إذا فرغ من الكلام فرغ كل شيء منه، وخرج من الدرس فوجد البدع والمنكرات بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يهتز لها هزة الغضب، ولا يتأثر لها تأثّر المنكر، بل يجاري البدع والمبتدعين ويكثر سوادهم، ويكون حجة على الدين لا حجة له.

أما أصحاب العقول المُتَدَبّرة والأفكار المثمرة، والبصائر النيّرة، والموازين الصحيحة للرجال، فإنهم يرون في الأفغاني عالِمًا أي عالم، وفردًا انطوى على عالم، وحكيمًا أي حكيم، وأنه أحيى وظيفة العالم الديني وأعاد سيرتها الأولى، وأنعش جدها العاثر، وجدّد رسمها الداثر.

كان العالم الديني في نَأْنَأَة الإسلام أقوى نفوذًا وأوسع سلطة من الخليفة والملك والأمير، وكان الأمراء القاسطون يخشون ذلك النفوذ الواسع ويضيقون به ويتبرمون منه.

كان القاسطون من الخلفاء والأمراء بعد دولة الراشدين يخشون سلطة العلماء ونفوذهم الروحي، لأن في ذلك النفوذ حدًا من استبدادهم ووقوفًا في طريق شهواتهم الحيوانية، فعمدوا إلى حيلة تتابع فيها أولهم وآخرهم وهي: إلصاق الحاجة بالعلماء، أو تحنيكهم بحلاوة الشهوات حتى يتخذوا منها مقادة لهم يجرونهم بها إلى مجالسهم وغشيان قصورهم، والحضور في محافلهم، فوقع الكثير في هذه الحبالة، ونجا من عصمه الله من هذه المكيدة، ونقرأ في تراجم الكثير من الزهّاد المتورعين أنهم كانوا يمتنعون من وطء بساط السلطان، وأكل طعامه، وأخذ جوائزه والولاية له، لأنهم كانوا يرون أن ذلك كله ترويض على ما بعده من إذلال وامتهان، وذريعة إليه، ولكن تلك الحيلة أخذت مأخذها من النفوس مع تطاول الزمن وإلحاح الإغراء حتى ضاع ذلك النفوذ الواسع، الذي كان يمسك الأرض أن تميد ويحرس الإسلام من طرق هذه المعاني الخبيثة من الداخل ومن الخارج، إلى أن اختلّ أمر الدين والدنيا معًا بين المسلمين، وكانت الخاتمة ما نراه اليوم في المجتمع الإسلامي من تخاذل وتفكك وانحلال، وهذه هي عواقب بُعْد العلماء عن الرأي وعدم تدخلهم في الشؤون العامة، وهكذا كان علماء عصر جمال الدين يريدون لجمال الدين أن يكون.

<<  <  ج: ص:  >  >>