للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والعلماء المصلحون متفاوتون في الاستعداد بالميادين التي جلوا فيها بمقتضيات الضرورة والزمان والمكان، فأحمد بن حنبل رأى أن العقيدة التي يريد الخليفة أن يغرسها بالقوة هي عبث بعقائد الحق كلّها، وأنها ستسري- إن سكت عنها- لبقية العقائد، لا سيّما والذي يرعاها خليفة، وتربتها التي نبتت فيها بغداد، وبغداد عاصمة الإسلام إذ ذاك، فالآراء التي تؤمر منها تنتشر في العالم الإسلامي كله، فوقف أحمد فيها المواقف المشهورة، ولاذ بقية العلماء وهم أئمة الدين وقادة المسلمين بسلاح الضعفاء المترددين، بعضهم بالتقية وبعضهم بغيرها من ذرائع سلامة البدن، والعز بن عبد السلام رأى أن طغيان المماليك في مصر واستهتارهم يؤديان إلى ضياع المصالح، واختلال السابلة، فوقف منهم موقفه الذي خلّد اسمه، وأحمد بن تيمية رأى أن ضلال العقائد واستفحال البدع وتسلط المبتدعين على عقول العامة قد طغت بحارها، فوقف منهم طول عمره موقف الخصم اللدود حتى خضد شكوتهم وفل شباتهم، ومحمد بن تومرت رأى اقتناع علماء الدين في تغيير المنكر بالمرتبة الأخيرة التي لا بلاء فيها ولا جهاد، وهي التغيير بالقلب، فانتقل إلى أعلى رتبها وهي التغيير باليد، فكان يغير المنكرات بيده، ولولا مخرقة شابت أفكاره لكان في عداد المصلحين العظام، وجمال الدين رأى أن أنكر المنكر في زمنه هو عبث الأمراء المستبدين أو الأمراء الضعفاء بمصالح المسلمين، وأنهم أضاعوها في سبيل شهواتهم الشخصية، وأنه لولا سكوت العلماء وقعودهم مع الخوالف لما تمادى أولئك الأمراء في غيّهم، فوجّه جهوده ووقف مواهبه على هذا الميدان السياسي، والسياسة في نظر الإسلام هي من لباب الدين، لأنها حامية لشرائعه وشعائره وحدوده، وموقف الأفغاني من شاه إيران وسلطان العثمانيين وخديوي مصر مشهورة، فالأفغاني باتّساع معلوماته، وباستعداده الفطري، وبِبُعد نظره، وبصراحته وشجاعته، وبحسن فهمه لأمراض المسلمين، ومعرفته بأصناف عِلاجها، مصلح سياسي، اجتماعي مستكمل الأدوات لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار.

ولم يتخذ الأفغاني وطنه الذي ينتسب إليه مركزًا لحركاته وأعماله، لأَنَّ ذلك الوطن لا يصلح مركزًا لانبعاث حركة فكرية شاملة، لبعده وانقطاعه عن بقية الأوطان الإسلامية، واختار مصر قاعدة للحملات الصادقة التي حملها على استبداد الأمراء وخمول العلماء، وغفلة العامة، وشيء آخر من بواعثه على اختيار مصر واتخاذها قاعدة لحركاته، وهو أن مصر لم تزل حاضنة العروبة، وحافظة عهودها من لدن الفتح الإسلامي، ولم تزل كعبة العرب ومهوى أفئدتهم منذ قرون، وكل مبدإٍ يتعلّق بإصلاح شؤون المسلمين العامة، فمن دواعي نجاحه أن يكون منبعثًا من أرض العرب لمكانهم من النبوة ومنزلتهم من القرآن.

<<  <  ج: ص:  >  >>