للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دينهم، وإنها ذمة قل من يرعاها وواجبات كثر منتهكوها. وإن الجزائر لتتيه فخرًا واعتزازًا بأن التاريخ سيكتبها من رعاة العهود الأوفياء، على كثرة أسباب القطيعة.

أيها الإخوة: إن من حسنات الثورة الجزائرية أنها كانت سببًا في تقريب العرب بعضهم من بعض وجمع قلوبهم حولها ونسخ التجافي بينهم بالتصافي، وانها كشفت الغطاء عن مخازي الاستعمار الفرنسي، وكشفت بالتبع عن حقيقة هذه الدولة التي تملأ ماضغيها فخرًا بأنها أصل المدنيات ومحررة الشعوب ومهذبة العالم، وإن ما تدعيه من الديمقراطية هي دعوى كاذبة خاطئة فاجرة، وقد أضلت بهذه الدعاوى إخوانًا لنا في هذا الشرق يعزّ علينا أن يضلوا ويزلوا، وسحرت أعينهم ببريق حضارتها فأعشتهم عن رؤية حضارتهم وما ترك أسلافهم من أثرها، فبينت الثورة الجزائرية لهم بالبرهان أن الفضائل التي تنتحلها فرنسا فضائل زائفة، لأن مرد الفضائل في شعب هو سمو أخلاقه، وترامي هذه الأخلاق فيه إلى الكمال، بما يكفله استعداده للخير والرحمة وتقوية النوازع الإنسانية الكامنة في طبعه وجبلته، وفرنسا أفسد الاستعمار جبلتها، وطمس الطمع والأنانية- وهما من لوازم الاستعمار- على كل حسنات من أخلاقها، وإنّا لننقض عليها دعاواها الطويلة العريضة في ما تنتحله من الفضائل، ويروجه لها دعاتها وسماسرتها المأجورون وتلامذتها المفتونون في هذا الشرق، ننقض عليها وعليهم تلك الدعاوى كلها بمثال واحد، وهو أن فرنسا احتلت الجزائر منذ مائة وثلاثين سنة تقريبًا، ولم تستطع تحطيم المقاومة الصادقة من أهلها إلّا بارتكاب ما لا تفعله الوحوش الضارية الموكولة إلى غرائزها الحيوانية الدنيا، وفعلت من المنديات ما يسوّد تاريخها الإنساني مما سجله قادتها في ذلك الغزو، لا إنصافًا للتاريخ، ولكن افتخارًا بتلك الأفعال الوحشية، وها هي ذي بعد هذا العصر الطويل الذي يحول الأحوال، وينسخ الطباع، تفعل مع الشعب الجزائري في هذه الثورة ما لم يفعله سلفها في حروب الغزو، وتأتي من الموبقات والتفنن في ضروب التقتيل والتعذيب ما ترتفع عنه طباع الوحوش من قتل الصبيان والنساء والشيوخ والعزل والمرضى زيادة عن اتلاف الأقوات وانتهاك الحرمات، حتى كأن التهذيب الأخلاقي في فرنسا سائر إلى الوراء، وكأن تعاقب أجيال أربعة لم يكف لتحويل الأخلاق من شراسة إلى لين ومن وحشية إلى أنسية.

وكأنما أنف أصحاب تلك الطباع الجافية أن تشهر الجزائر المستعبدة في وجههم السلاح وأن تثور بعد هدأة ظنوا أنها القاضية، ولم يستطع أصحاب تلك الطباع أن يقاتلوا المجاهدين في ميادين الحرب فعمدوا إلى ما يعمد إليه كل جبان من الانتقام من الأطفال والنساء والعجزة، ويا ليت القتل كان كافيًا، بل نراهم يتفننون في التعذيب قبل القتل كما يتفنن المترف الشهواني في شهواته حتى جاوزوا الحدود التي يأمر بها الشيطان من الشرور وكبائر الإثم والفواحش.

<<  <  ج: ص:  >  >>