للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيها الإخوة: إن في أطوار الثورة الجزائرية لعبرًا، فقد بدأت على حين يأس من مطالب معقولة، جهر بها الشعب الجزائري وتصاممت عنها فرنسا وأبت أن تستجيب لدعواتها المتكررة، بدأت بثلاثة الآف مقاتل وطنوا أنفسهم على الموت في سبيل الله، وكان سلاحهم الروحي أقوى ما بأيديهم، كان سلاحهم الذي لا يفل الإيمان بالله ناصر المستضعفين وقامع العتاة المتجبرين، وكان مركز الثورة قمم جبال أوراس منبت الأبطال الذين خلفوا عليه الأسود يوم انقطع منها نسل الأسود، وما أتمت سنة حتى انتشرت كالنار على القطر كله وتزايد عدد المجاهدين حملة السلاح إلى الثلاثين ألفًا ... إلى الخمسين حتى أصبح جيش التحرير مائة ألف أو يزيدون يقارع دولة عرفت في العالم بأنها في طليعة الدول الحربية العسكرية، يقارع جيشًا مسلحًا يقارب المليون مجهزًا بما يقوم بهذا العدد الضخم من دبابات وطيارات وأساطيل بحرية، وأجهزة ارتباط ومواصلات تموين تبتدئ من فرنسا وتنتهي في دواخل الجزائر، ومع ذلك فإن اللطيفة الالهية ظهرت للعيان مرة أخرى ونصر الله الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وقام إخوانكم المجاهدون بشرط الله وهو الإيمان والصبر وصدق النية وطهارة القصد، فصدقهم الله وعده.

أيها الإخوة: إن الشعب الجزائري سائر في هوى القومية العربية عامل لها لا تثنيه عنها الأعاصير في أي جو عصفت، ولا تردّه عنها التيارات المختلفة ولا الأهواء المتباينة، فالجزائر اليوم مشغولة بهذا الصراع بينها وبين عدوها الذي يمثل الاستعمار في طور النزع والاحتضار. فإذا فرغت منه اتصلت بإخوانها في هذا الشرق اتصال الأخ الذي لم ينس أخاه، ولم تتبدل له عقيدة في أيام الشدة، فالوحدة العربية التي راق الجزائر خيالها، وبرز للوجود في هذه الأيام مثالها، هي نهاية شوط الجزائر في اعتناقها حقيقة بعد أن كانت أمنيتها عقيدة، وستكون الجزائر مزيدًا في قوّة القومية العربية، ولا نغالي إذا قلنا إن الشعب الجزائري سيكون تعديلًا لبعض المتناقضات في الشرق العربي وسيكون تلطيفًا لبعض الشذوذات فيه، وسيكون بما أودع الله فيه من روحانية قوية وجد لا يلم العبث بساحته مثالًا يحتذى في مجموعة إخوانه العرب. إن بعض الأخلاق المنتقدة في إخوانكم الجزائريين مثل الصلابة والخشونة قد تكون ضرورية في مثل هذا الطور من أطوار العرب فينشأ من الصلابة ما يقاوم الارتخاء، ومن الخشونة ما يقاوم ما ابتلتنا به الحضارة الغربية، ومن الجد ما يقاوم الهزل المتفشي في مجموعنا وينشأ من جميع ذلك مزيج عجيب فيه التعديل والتلطيف والعلاج.

أيها الإخوة: هذه الكلمات المضطربة كلها ذكرى، وأنتم قد اجتمعتم للذكرى فهل لكم أن تتوجهوا إلى الله بقلوب متعلقة به عامرة بالإيمان به متقلبة في قبضته فتسألوه الرحمة لأولئك الشهداء المستضعفين الذين سالت مهجهم على الشفار، ولأولئك الأقوياء به الذين تمزقت أشلاؤهم في القفار. ترحموا على كل من مات في الجزائر في زمان هذه الثورة، فمن

<<  <  ج: ص:  >  >>