للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أيها الأخوان:

إن الجزائر ثائرة بطبيعة وَرِثَتْها وَوَرَّثَتْها، ورثتها من أسلاف لهم في تاريخ الثورات عرق ممتد إلى عصور الجاهلية، والتقت عليه الطبيعتان العربية والبربرية، وورثتها من غاباتها الكثيفة الغبياء وجبالها الصخرية الشم، وأطلسها الذي هو نطاق الله شد به وسطها ووِشاحه وشح به سواحلها، وسلكه الذي نظمها به مع أختيها تونس ومراكش، لا بل آيته القائمة على أن تلك الأقطار دار واحدة لا تتجزأ ولا تقبل القسمة، فإذا حاول تفريقها محاول سفهته السواحل باتحاد أمواجها وصدمته الجبال بتناوح أثباجها، واشتباه فجاجها، وكذبته الصحارى بسرابها وسراجها ومراتع غزلانها ونعاجها، ومراعي أذوادها وأعراجها. ثم ورّثت تلك الطبيعة بَنِيها فكانت صلابة في طباعهم وحميا في أنوفهم وحمية في نفوسهم، وإباء في مغامزهم، ورهبة في سكونهم وسكوتهم.

إن السجايا الطبيعية كالحق تظهر من معنى ومن كلم، وإن عرب الجزائر- خصوصًا النابتين في مجالات بني هلال بن عامر- لعراقتهم في الثورة وتمكن الثورة من طباعهم، يستعملون كلمة الثورة بمعنى القيام المعتاد، فيقولون ثار من النوم وثار للصلاة بمعنى قام، ويقولون في الأمر "ثُورْ تْصَلّي" وثوروا للصلاة، وهكذا تدور هذه الكلمة على ألسنتهم مرّات عدّة في اليوم ويتصرفون فيها هذه التصرفات، وهم لا يجهلون معناها الأصلي المحدد بل هم يلمحون إليه ويجعلون الكلمة منبهة عليه، وكأنهم يرون أن أعمال الحياة كلها ثورات، وتلك هي الفلسفة الفطرية في أعمق معانيها، والكلمات إذا دارت على الألسنة ولو مع انحراف عن معناها الأصلي فإنها دائمًا تذكر به وتجعله متصلًا بالأذهان.

أيها الإخوان:

إن الجزائر ثارت على الحق في أولها فكيف لا تثور على الباطل في آخرها. ثارت على الإسلام وهو دين الحق، فمن عجب أن لا تثور على الاستعمار وهو الدين الباطل، فلما هداها الله للإسلام لجت بها تلك الطبيعة فكان يثور بعضها على بعضها استجابة لداعي تلك الجبلة فيها كما صورها العربي في قومه بقوله:

وأحيانًا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلّا أخانا

إن الجزائر قبل أن يلوح عليها بوم الشؤم من الاستعمار الفرنسي، ويبتليها بما قتل معنوياتها، وأضعف فيها روح الرجولة والبطولة والنبوغ والتأثر الصادق بالدين، كانت حلف الجهاد وعدو المهاد، فلم تخل يومًا في عصورها الإسلامية من الجهاد بالمال والنفس كما أمر الله، لأن الجارين المتقابلين على ضفتي البحر الأبيض كان كل واحد منهما بالمرصاد لصاحبه، وانتقل سبب الصراع بينهما من ميدان إلى ميدان، فبعد أن كان صراعًا على العيش

<<  <  ج: ص:  >  >>