للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفرنسا استعمارية بطبيعتها، ولا تلتذ من ثمرات الاستعمار إلّا باستعباد المستضعفين من خلق الله، وانتهاك حرماتهم، والرقص على جثثهم، والطرب لأنينهم، وعندها أن نهب الأموال وسلب الأرزاق وتجريد الضعفاء من أسباب القوّة، ونشر البؤس والأمراض، كل ذلك يأتي في الدرجة الثانية بعد تعذيب الأبدان وسلب الإرادات وقتل الضمائر وكأنها في القرن الأخير تنبهت إلى أنها وارثة الرومان الأقدمين، فأرادت أن تبلغ مثل ما بلغ الرومان، أو فوق ما بلغ الرومان من اتساع الرقعة وبسط السلطان وسوق العالم بعصا القوّة والبطش، وكان يمكن أن تبلغ هذا في غفلة من الدهر وفي ساعة انكدار النجوم وإدبار الأيام وتسلط النحس على كثير من الشعوب، كما كان يمكن أن تبلغ هذا من طريق الاحسان والعدل ... ولكنها الأعراق المتأصلة في الخبث لم تدع لها منفذا لتصور شيء اسمه العدل، أو شيء اسمه الاحسان.

تنتحل فرنسا لنفسها وصف العظمة، والعظمة نوعان: عظمة نفسية طبيعية في الأفراد أو في الشعوب، وعظمة مزورة مصطنعة، ومرجع الأولى إلى سمو الروح الإنساني الذي تنشأ منه الفضائل كلها كالرحمة والمحبة والعدل والاحسان والوفاء والصدق والعفة، وهذه هي أمهات الفضائل في الأفراد وفي الشعوب. ومن فضل الشيطان على فرنسا أنها عارية من هذه الفضائل كلها، وتاريخها الاستعماري المديد كله شهادة ناطقة بهذا، فما رأينا استعمارًا أفجر من الاستعمار الفرنسي ولا أخشن منه مسًا، فهو يتعمد جعل الرذائل أساسًا لحكمه ومعاملته للضعفاء الذين يقعون في قبضته: فمن ظلم لا رحمة معه، إلى استئثار لا عدل فيه، إلى نهم لا قناعة فيها، إلى لصوصية لا حد لها؛ ولو اقتصر بلاؤه على الظواهر المادية لهان الأمر قليلًا، لكنه يجاوزها إلى الدين، وإلى عقائده في النفوس، وإلى مدب السرائر ومعتلج العواطف، وإلى الصلات الروحية بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره. ومن لئيم المكر والكيد والاضلال في هذا الاستعمار أنه يعتمد على القانون، والقانون هو الذي يصنعه، وهو الذي ينفذه وهو الذي يطبقه، كما شاءت أهواؤه في التشريع والتنفيذ، ومن تعمقه في المكر وقلب الحقائق أنه يسخر تلك القوانين لحماية الرذيلة، فالذي يفتح مدرسة لتعليم الأطفال مبادئ دينهم ولغتهم مجرم مخالف للقانون، أما الذي يفتح مخمرة يفسد بها عقول الناس ويتلف أموالهم فهو حر تحميه تلك القوانين، وأمثال هذا كثير.

هذه وأمثالها هي الأساطين التي بنيت عليها العظمة الفرنسية التي أثمرت هذا الاستعمار، والتي ما زال يتبجح بها ساسة فرنسا والمغرورون من رجال الاستعمار فيها، ولو أن هذا التبجح ارتفع صوته قبل الحربين العالميتين ويوم كانت تتمتع بسمعة عسكرية ترهب وتخيف، لقلنا: لعل وعسى، فأما بعد تينك الحربين، وبعد ثورة الهند الصينية، وبعد ثورة الجزائر، فقد كشفت المحسوسات عن المدسوسات، وعلى أن تلك العظمة التي لا تعتمد على الأخلاق النفسية ولا تعتمد- أول ما تعتمد- على الروح، هي عظمة زائفة دعية.

<<  <  ج: ص:  >  >>