للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن هيبة الأسد تنبعث من أظافره وأنيابه، فإذا أصبحت أظافره مقلمة، وأنيابه مهشمة، فقد بطل سحره وضاعت هيبته.

إن العظمة الحقيقية لا تتحدث عن نفسها بلغة الكلام، وإنما تفصح عنها الحقائق الملموسة من أعمال ومعاملات، وصدق يحوط ذلك كله، ولأمر ما لم تعلُ هذه النغمة بالتحدث عن عظمة فرنسا قديمًا في أيام صعود نجمها وإقبال أيامها، وإنما كثر تردادها ولوكها في هذه السنوات الأخيرة، كأن ذلك مقصود لتغطية الهزائم المتلاحقة على فرنسا في الميدانين السياسي والاجتماعي. ولو كان الساسة الفرنسيون عقلاء لهداهم العقل الرصين الرزين إلى التي هي أقوم، وهي تبديل العقلية العتيقة كما يبدل أحدهم ثوبه إذا اتسخ، ولأرشدهم إلى تطهير الروح المدبرة، واستبدال السيئة بالحسنة، والظلم بالعدل، والاستئثار بالايثار، والانانية بالمساواة، وسوء المعاملة للناس بحسن المعاملة، ولكنهم عموا عن رؤية الحقائق الماثلة، وصَمُّوا عن سماع الكلمة العاقلة، فكأن نظافة البدن عندهم أهم من نظافة النفوس، وكأن تدبير الجسد ألزم في نظرهم من تدبير الممالك.

كانت فرنسا وما زالت ثائرة على الشعب الجزائري ثورة متماسكة الحلقات من قرن وربع قرن، يعني من معارك الاحتلال الأول، فلم ينطفئ لها غيظ باستسلام الجزائريين وبالقائهم السلاح، بل بقيت الاحقاد تغلي وتظهر آثارها في كل ما تعاملنا به فرنسا ... تظهر في القوانين المسنونة لحكمنا، وهي قوانين خاصة بنا، وفي التعاليم التي يسير عليها صغار حكامها فينا، وفي استمرار نزع الأرض الصالحة من الأهالي بالقوّة وإعطائها إلى المعمر الأوربي أيًّا كان جنسه، وفي الاستيلاء على جميع معابدنا وأوقافنا وزيادتها في رقعة الاستعمار، ولم يكفها هذا، بل حرمتنا من اختيار أئمتنا، ووضعت جميع المساجد تحت يدها، وأصبحت هي التي تعين الإمام والمؤذن والقيّم، لتسخرهم في أعمال بعيدة عن الدين، امتهانًا لكرامة الدين، ولقد بلغ بها هذا الامتهان حده في المدة الأخيرة فسخرت جميع رجال الدين الموظفين للتجسس على إخوانهم، وأصبح تجسسهم لها شرطًا في الوظيفة الدينية، وحرمت علينا تعلم ديننا إلّا بمقدار لا يغني ولا يفيد، وحرمت علينا تعلم لغة ديننا حتى المبادئ الطفيفة، وحرمت علينا تعلم لغتها إلّا بمقدار ضئيل تهيئنا به لخدمة الحكومة في وظائف الترجمة، ولخدمة السادة المعمرين، ولولا تيار من النهضة طغى منذ ثلاثين سنة تقريبًا فدفع طائفة من شباب الأمة إلى اقتحام أسوار الكليات والجامعات، وعدم الاكتراث بالأشواك والعراقيل المنثورة في طريقهم إليها- لولا ذلك التيار- لما وجدت هذه الطائفة القليلة التي تحمل لواء الثورة اليوم ولما كانت النهضة السياسية التي تقدمت الثورة.

وضربت فرنسا بيننا وبين إخواننا في الشرق سدًا منيعًا وستارًا حديديًّا أين منه ستار الروس، ومن فروع هذا السد أنها لا تسمح برخصة الحج الذي هو فرض ديني إلّا لأتباعها

<<  <  ج: ص:  >  >>