للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوم أدبنا ديننا بأن الحرب مفسدة لا ترتكب إلّا لدفع مفسدة أعظم منها، وأوصانا بأن لا نغمس يدًا في فتنة وأن لا نبدأ أحدًا بالقتال، وأن لا نقاتل إلّا من قاتلنا، وأن لا نركب إلّا أحسن المحامل ما دام جزء في المائة حسنًا، واعلمنا أن الحسنات يذهبن السيئات، ولكن ما ذنبنا إذا بدأنا الاستعمار الفرنسي بالشر وسوء المعاملة، وحرمنا من جميع مقوماتنا، واعتدى على ديننا فتعمده بالمسخ، وعلى شعائرنا فتعمدها بالتعطيل، وعلى مساجدنا فتعمدها بالهدم واتخذ من بعضها كنائس، وعلى لغتنا فتعمدها بالمحو، وعلى فضائلنا فغمرها بالرذائل، حتى أصبح الجو الذي يجمعنا وإياه كله عاتم غائم ليس فيه إشراق ولا صفاء، وقد صبرنا على هذه الحالة التي لا يصبر عليها إنسان ولا حيوان مدة تزيد عن القرن، فهل من عاذر؟ وهل من منصف؟ وهل من عاقل؟ وهل من معين؟

وكانت ثورة الجزائر من أول يوم تحمل في ما تحمل من معان أنها ثورة على الظلم والجور والاستعباد وتلك الشرور التي ضربنا الأمثلة على سائرها في هذه الكلمة، وكذلك النفوس الحرة إذا بلغ بها الضيم مبلغًا تزنه بالموت فيرجح، وتيأس من خير الحياة وخير الأحياء وتتلمس المخرج إلى نور الحياة من جهاتها الست فلا تجده إلّا ضربًا من المحال، فهي معذورة حين تتلمس الراحة من طريق التعب، والحياة من طريق الموت، وهي معذورة إذا اندفعت في طلب الموت بأكباد حرار إليه، ظماء إلى موارد الردى لا ترهبها قوة عدوها، ولا تخيفها وفرة سلاحه، لأنها وزنت أمسها وغدها بالقسط، فأقدمت وهي على بصيرة من أمرها، وقرأت حسابها لما تجره عليها الحرب من تشتيت شمل وتحيّف مال، وعلمت أنها إن لم تلق الموت مرفوعة الرأس لقيها الموت وهي ذليلة، وهو ميزان- كما ترون- لا يستخدمه ولا يركن إليه إلّا من كان في مثل حالة الشعب الجزائري في الظلم والهضيمة، وهي- كما ترون- مغامرة لا يغامرها إلّا من يؤثر الموت المعجل على الموت البطيء.

وإن لم تكن إلّا الأسنة مركبًا ... فلا يسع المضطر إلّا ركوبها

فهذا شعب حر أصيل وقفت به صروف الدهر على صراط أدق من الشفرة، وحملته على تجرع واحد من اثنين أحلاهما مر، فلا تلوموه إذا حكم السيف وترك للأقدار تقدير العواقب، وقد تولته العناية الالهية، فلم يزل منذ خطا الخطوة الأولى في السبيل الذي رضيه، يستنشق من نفحات النصر الالهي والتأييد الرباني ما ينعشه ويشد من عزيمته، وما زالت تفعمه من روائح النصر في كل خطوة ما يدفعه إلى الخطوة الثانية مسدّد الخطى، وهو إلى هذه الساعة مغتبط بما يقدمه لعدوه من هزائم يزيد في مرارتها في ذوق العدو، وحرارتها في صدره ... أن هؤلاء المجاهدين لا يقاتلونه بالأسلحة التي تعرفها الحرب، وإنما يقاتلونه بسلاح الإيمان والثقة بالله وبالنفس، إنما يقاتلونه بالسلاح الذي يعرفه منهم يوم كانوا معه جنبًا إلى جنب في الحربين الماضيتين، وما ذلك السلاح إلا الشجاعة والاقدام والثبات، وإذا جاء نصر الله بطل كيد الأقوياء.

<<  <  ج: ص:  >  >>