للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيها الإخوان المؤتمرون:

إن مؤتمركم هذا لم يعقد لتضميد جميع الجراح التي أبقاها الاستعمار فينا، فهي كثيرة، وعهدنا بالصحو من خُمار الاستعمار قريب، وقد ترك فينا ما يشبه الشلل في أعضاء العمل وسيضطرنا الحال إلى عقد مؤتمرات عديدة، في فترات متقاربة لمعالجة بقية الجراح، فلنرتّبها بحسب الأهمية، حتى لا يضيع الوقت والجهد والمال، ولعلّ من إلهام الخير وبوادر التوفيق أن نبدأ بمعالجة التعريب الذي هو أكبر شعار للاستقلال، وهيهات أن يتحرّر شعب ولسانه مستعبد للغة أجنبية، أو يتحرّر شعب متنكّر للسانه، فاستقلال العرب لا يتمّ تمامه إلا بتعرب ألسنتهم وأفكارهم وهممهم وذممهم، إلى آخر ما للعرب من صفات وأخلاق.

أيها الإخوان:

التعريب نوعان: نوع جزئي ونوع كلّي، فالتعريب الجزئي هو تعريب الألسنة والأقلام وآثارهما من خطابة وكتابة، ويدخل فيه تعريب الدروس التعليمية، والثاني يشمل هذا، ويشمل التخلّق بأخلاق العرب والتحلّي بكل ما اشتهر عنهم من محامد وفضائل، ويظهر مما وصلني من جدول أعمالكم أنكم تقصدون الأوّل، فلنجرِ معكم في هذا العنان، ولنعرب ما استطعنا من الألفاظ، والمصطلحات، والتعليم، وكتبه، وأساليبه، ولغته، ولننقح على قدر الإمكان، ولنكل بقية التصفية والغربلة للزمن، فإننا اليوم في وقت ضرورة تتقاضانا الاستعجال في كل شيء، وليس المستعجل كالمتأني، ولنطهر لغتنا من أوضار الاستعمار ولغاته، ولا ندع أجيالنا الناشئة تنشأ على اعتقاد ناقص في لغتها، بل نتحيّل لها في جلب معاني الاعتزاز بها، ونغرس فيها معاني التمجيد لها. ولسنا بدعًا في هذا النوع من التعريب، فقد سبقنا إليه إخواننا في الشرق العربي، وكان أسبقهم إليه وأسرعهم خطى فيه إخواننا السوريون، فما خرجوا من التسلط التركي حتى كانت كتب التربية والتعليم على اختلاف فروعه جاهزة باللسان العربي، وكذلك كتب الطب والصيدلة والحقوق ومصطلحاتها، وكانت الجهود التي قامت بذلك جهودًا فردية، وما تمّ أسبوع على الجلاء التركي حتى ظهرت كتب عربية موضوعة ومترجمة في التعليم بجميع مراحله، وللسوريين إلى الآن نشاط محمود في هذا الميدان ولصديقنا الدكتور أحمد حمدي الخياط شيخ المتخصصين في التحليلات الكيماوية طريقة معروفة هو فيها نسيج وحده، فهو يأبى أن يكتب كلمة غير عربية في الفرع الطبّي الذي هو من اختصاصه، وقد سمعت منه مرّات أن العربية تتسع لدقائق الطب الذي برع فيه العرب، إذا استثنينا كلمات قليلة يونانية أو فارسية أدخلها الفارابي وابن سينا من ميراثهما الفارسي.

ومصر- وما أدراكم ما مصر- فقد كان لكتابها ولمجمعها اللغوي آثار مشهورة في تعريب الألفاظ والمصطلحات العلمية، وكان لعلمائها البارزين- كثّر الله عددهم- أياد على العربية بما وسّعوا من آفاقها، وما نموا من ثرواتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>