للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيها الإخوة: لقد كانت العربية قبل اليوم وإن رباعها لمجفوّة، وإن قصاعها لمكفوة وإن رقاعها لغير ملتامة ولا مرفوة. لقد كانت تلقى الأذى من الغريب المتنمر، ومن القريب المتنكر، فيخف لنصرتها أفذاذ من أبنائها الأوفياء، وجنودها المجهولين، ولكن لا يسمع لهم صوت لتفرقهم في أقطار العروبة المتباعدة، حتى ظهر هذا المجمع، فسعى في إعادة شبابها وتجديد معالمها، وجمع أنصارها، على تعثر خطواته في السنوات الأولى لإنشائه، كشأن كل ناشئ، ثم ما زال يقوى ويشتد، وكلما انضمت إليه طائفة من رجال العربية وفرسان بيانها انتعش وشاعت فيه الحياة، ووخزته الخضرة من جوانبه، ثم ما زال المدد يتلاحق، والعدد يتكامل، حتى وصل إلى الحالة التي هو عليها اليوم، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرًا، وإن هذا المجمع إذا اطَّرَدَ سيره، وتم إتمامه ليكونَنَّ أداة فعالة في وحدة العرب، ولا عجب فأقوى جامع لكلمة العرب كلام العرب، ولئن تم ذلك لتكونن هذه الأسرة أعز رهط في العرب.

أيها الأخوة: لقد كنا معشر المشغوفين باللغة العربية، الهائمين بحبها في كل واد، نتتبع أعمال هذا المجمع باهتمام، ونتلقف كل ما يقوله أو يقال عنه، فنبحثه في مجتمعاتنا الخاصة بإنصاف، ونستعرضه فصلًا فصلًا، وكلمة كلمة، وكنا نعرف منه وننكر؛ نعرف تلك الآراء القيمة التي يعلنها بعض أعضائه، وتلك المباحث الجليلة التي يقدمها بعضهم، ونستحسن تلك الأفكار الجريئة في توسيع دائرة النحت والقياس والاشتقاق، التي كان المجمع يتناولها بالتمحيص إلى كثير من حسناته ومزاياه، وننكر منه هنات لا تحط من قيمته في أنفسنا، ولا تقدح في ما نضمر له من إجلال وإكبار. ننكر عليه البطء والتثاقل في السير، وعدم التعجيل بتقديم ثمراته إلى الأمة في مجلته ونشراته، وتقصيره في ما يجب الإسراع فيه، وأشد ما كنا ننكر من أعماله استعانته بالمستشرقين في شأن هو من خصائص الأمة العربية، ولكننا كنا لا نستطيع الجهر بما ننكره على المجمع، ولا نشيع قالة السوء عنه، لأننا نعلم أنه ناشئ، وأن النشأة مظنة للنقص، وننتظر به مرور الزمان، واستحكام التجارب ومواتاة الفرص حتى يصلح من شأنه بنفسه، والزمان يقيم الأمت، ويقوم السمت، إلّا شيئًا واحدًا ما كنا نقبل فيه عذرًا ولا نتسامح فيه فتيلًا، وهو مسألة الاستعانة بالمستشرقين، ولقد كنا نستسيغ الاستعانة بالأجنبي في بناء سد، أو مد سكة، أو تخطيط مدينة، مما سبقنا إليه الأجانب وبرعوا فيه، أما الاستعانة بهم في شأن يخصنا كاللغة فلا!! .... ومتى رأينا مستشرقًا بلغ في العربية وفهم أسرارها ودقائقها ومجازاتها وكناياتها ومضارب أمثالها ما يبلغه العربي في ذلك كله؟ ... على أن بعض أولئك المستشرقين الذين كانوا أعضاء بهذا المجمع، كانوا مستشارين في وزارات الخارجية في بلدانهم، وهذا قادح آخر يضاف إلى قادح قصورهم في اللغة العربية.

أيها الإخوة: إن مواطن العروبة متفرقة متباعدة، وإن الرابط الطبيعي بينها هو هذه اللغة، وقد ألم بها من أحداث الدهر ما أضعف تلك الرابطة حتى رثت حبالها، وغالبتها العامية في

<<  <  ج: ص:  >  >>