للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا شك أنه روعي في هذا الاصطفاء قيمة المحتَفَل بذكراه، فهو ليس شخصًا عاديًا، ولكنه شخصية علمية عالمية، فهو أستاذ بجامعة الجزائر، وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق، ومحاضر بالمؤتمرات العلمية العالمية، ومحرّر كثير من مواد دائرة المعارف الإسلامية، ومؤلف كثير من الكتب الأكاديمية، ومحقق عديد من المخطوطات القيّمة، فإسناد رئاسة الاحتفال بذكراه إلى الأستاذ الإبراهيمي - رغم كثرة تلامذة الدكتور وأصدقائه من أساتذة جامعة الجزائر وغيرها من المعاهد العليا- اعتراف بأنه كفُؤها القدير وجُذَيْلُها المحكك، وأنه "نابغة الشرق الجزائري، العبقري الفذ رسول البيان " (١٤).

ولا شك- أيضا- أن العلماء والأدباء الذين حضروا ذلك الاحتفال سمعوا من الإبراهيمي أروع مما سمعوا عنه، فأكبروه، وقَدَرُوهُ حق قدره، وهو ما دعا المشرفين على نادي الترقّي- وهو أهم نادٍ ثقافي وأدبي في الجزائر- إلى دعوته ليحاضر جمهوره وروّاده في موضوع "بيان فوائد الاجتماع " (١٥).

أعمى الطغيان أعين الفرنسيين، وأصمّ الاستكبار آذانهم، وران الحقد على قلوبهم، فأقاموا سنة١٩٣٠ احتفالات ضخمة بمناسبة مرور قرن على احتلالهم الجزائر، وصرّحوا بأقوال وقاموا بأعمال جددت في نفوس الجزائريين آلامًا نُسِيَتْ، وفتقت جروحًا رُتقَتْ، وكانت اللازمة التي ردّدها الفرنسيون قبل تلك الاحتفالات وفي أثنائها وعقبها، هي أنهم لا يحتفلون بنصر عسكري حققوه؛ ولكنهم يحتفلون بالقضاء على الإسلام واللغة العربية في الجزائر التي أعادوها إلى النصرانية وريثة الوثنية الرومانية، وإلى الفرنسية وريثة اللغة اللاتينية. وقد لخّص كاردينال الجزائر ذلك كله بقوله: " إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر، وإن عهد الصليب قد بدأ وسيستمر إلى الأبد (١٦).

استغلت ثلة من علماء الجزائر، أيقاظ الشواعر، وأحياء الضمائر، وأصفياء البصائر تلك الاستفزازات الفرنسية ليُنَبّهوا الجزائريين إلى ما يُراد بهم من كيد، وما يُدبر لهم من مكر، وليُحْيوا في أنفسهم الأمل الدافع إلى العمل، ويقتلوا اليأس المميت للبأس. وتنادى أولئك العلماء إلى لقاء أثمر تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي كانت بِدْعًا من الجمعيات، فأنارت الجزائر وأضاءت ما حولها، وبصّرت الجزائريين بما لم يبْصُروا به، وغيّرت ما بأنفسهم فغير الله - بعد حين- ما بهم، وتحوّلوا من "أَنْدِيجان"، (١٧) إلى شعب، ومن قبائل إلى أمّة.


١٤) نفس المرجع.
١٥) انظر مقال "التعاون الاجتماعي" في هذا الجزء من الآثار.
١٦) د. محمد فتحي عثمان: "عبد الحميد بن باديس، رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة" الكويت، دار القلم، ١٩٨٧، ص٦٩.
١٧) كلمة فرنسية معناها "أَهْلي"، وكان الفرنسيون يطلقونها على الجزائريين احتقارًا لهم، وسخرية منهم، واستهزاء بهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>