للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالسائل يطلب آية جامعة (لوظائف) القرآن، لا جرم أن أول ما يخطر ببال المجيب أمثال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ .. } الآية. وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ .. } الآية. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وغيرها من الآيات المبيّنة لأصول الدعوة القرآنية. ثم يلتمس راية تجمع هذه الأصول مع التنويه بهذا الكتاب الجامع لها، فيقع على تلك الآية أو ما شاكلها والآيات الجامعة (لوظائف) القرآن كثيرة، ومن السهل السريع الوقوع عليها عند هذه الطائفة التي أوتيت قوة الاستعراض.

وقد يسأل عالم آخر فيقع على قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أو قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}. والكل مصيب رضي القانون الجدلي أم سخط. وإن كان هناك تفاوت بين الآيات في الإحاطة والبيان، فلكل جملة تزيد في آية موقع ودلالة، ولكل كلمة تزيد في جملة معنى وحالة.

أما أنا- ولا أعوذ بالله من كلمة أنا- فلو أُلقي علي هذا السؤال لتمردت على قوانين الجدال وأجبت على المغافصة والارتجال، ولم أرع إلا الاعتبار المناسب ومقتضى الحال. وجررت السائل (عن وظائف) القرآن إلى (وظائف) أهل القرآن مع القرآن، وقلت للسائل ضع على ظهر المصحف بالقلم العريض قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} واجعل جملتي {فَاتَّبِعُوهُ} و {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} بين أقواس علّ هذه الأقواس المحنية تصيب من قارئه شاكلة انتباه فتزعجه إلى معرفة أن هاتين الآيتين هما جواز الداخل إلى أقطار القرآن، وعل هذه القلوب القاسية تستشعر حق القرآن عليها ووظيفتها التي يجب أن تقوم بها نحوه، وهي التدبر لمعانيه واتباعه.

إن حقوق القرآن علينا من التدبر والاتباع، هي التي يعروها ما يعروها من الإهمال والضياع والتفريط والغفلة. فهي التي يجب التنبيه لها والتذكير بها دائمًا والدلالة على مواقعها من آيات الكتاب العزيز، وهي التي يجب على العالم القرآني أن يختار للتذكير بها أصرح الآيات في معناها وأظهر الجمل في الدلالة عليها وأقرب الألفاظ لأذهان الناس. وإذا قارنا بين {لِيُنْذَرُوا} وبين {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وجدنا بينهما فرقًا جليًّا لا يُستهان به في مقام التذكير والإبلاغ في التأثير. فإن الإنذار- وإن كان معناه الإعلام بالشيء مع التخويف من عواقبه- لا يستلزم التدبر الذي هو انفعال نفساني ذاتي يفضي إلى النظر في إدبار الشيء وغاياته على وجه من التكلف والتدرج يفيده بناء تفعُّل وأثر الإنذار تأثير خارجي، وأثر التدبر تأثر ذاتي، والإنذار لا يشعر النفس ما يشعرها التدبر من العهد المسؤول والأمانة الثقيلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>