للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الاتِّباع فهو ثمرة التدبر وهو الذي لا تتحقق الغايات التي يرمي إليها القرآن إلا به، وقد تكرر ذكره في القرآن في معارض شتّى تدلّ مُستعرضها على أنه هو سرّ التديّن والتألّه. وانه المحقق للكمال وانه العاصم من الضلال والهلاك فليتدبر التالي هذه الأمثلة من الآيات القرآنية: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ}، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي}.

ويا للعجب من بيان القرآن وبيّناته وإعجازه بفنون إيجازه. إن الاتباع ضرب من قَفْوِ أثر الغير وترسم خطاه والانقياد له وجعل الهوى تبعًا للهوى مع اطمئنان بالمشاركة في النتيجة خيرًا كانت أو شرًا. وفي معناه من الهجنة أنه ينافي الاستقلال الفكري في الفكريات والذاتي في الذاتيات، فتجد القرآن يدفع عنك أثر هذه الهجنة العارضة فيأمرك بالتدبر واستعمال الحواس الظاهرة والباطنة في وظائفها الفطرية قبل أن يأمرك بالاتباع، حتى تطمئن إلى أنك إنما تتبع فيما فيه حَقّ وخير ورحمة، ثم إذا أمرك بالاتباع فإنما ذاك فيما يتعالى على فكرك إدراكه أو يصعب عليك تمييزه أو يخاف فيه غلبة الأهواء عليك. وبعد الأمر ينهى عن اتباع الهوى المضلّ عن سبيل الحق، وعن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وعن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباع أولياء من دون الله، وعن اتباع السبل المتفرقة، توكيدًا للمعنى الإيجابي وإيضاحًا للحق الذي يجب أن يتبع.

إلا أن المتدبرين للقرآن لا يخرجون من هذا الاستعراض البديع إلا مؤمنين موقنين بأن الاتباع الذي يدعو إليه القرآن هو عين الاستقلال التام للفكر والإرادة والعقل والوجدان لأنه يحميها من شرور الأهواء ويؤويها إلى حمى الحق وحده والاحتماء بالحق الذي قامت به السموات والأرض واستقر عليه تدبير الكون ونظامه- استقلال ما وراءه استقلال. {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}.

هذا حق القرآن علينا يجب أن نتخذ الآيات المنبّهة عليه فواتح في المدارسة وأن تتجاوب أصداؤها في جوانب نفوسنا حتى لا ندخل حرمه إلا بعد أن نكون عرفنا حقه. إنه لم يمض على المسلمين في تاريخهم الطويل عصر هم فيه أبعد عن القرآن منهم في هذا العصر، ولم يمض على الدعاة إلى الحق وقت عظمت فيه العهدة واستغلظ الميثاق مثل هذا الوقت، وإنه لا مخرج لهم من هذه العهدة ولا تحلل من هذا الميثاق إلا بالدعوة إلى القرآن. فلا عجب- ونحن نشعر بثقل هذه الأمانة- من أن ترتفع أصواتنا بالدعوة إليه. وإنما العجب

<<  <  ج: ص:  >  >>