للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"أن العلماء يمثلون أكبر الخطر على الفكرة الفرنسية في الجزائر" (٦)، وكانوا مدركين أن الأحزاب الأخرى- وإن رفع بعضها شعار الاستقلال السياسي- كانت تتبنى أفكار فرنسا الحضارية، وتستلهم قِيَمَها المادية، وتستوحي مبادئها اللائكية، وإذا كان بعض مناضلي تلك الأحزاب تبنوا القيم الحضارية للجزائر من دين ولغة وأخلاق فقد تبنوها عن عاطفة، لأنهم كانوا يجهلونها، ومن جهل شيئًا عاداه، وإن لم يعاده لم يخلص في خدمته والتمكين له، وإن أخلص في خدمته ضره- بجهله- من حيث يريد نفعه ... وقد دلت الشواهد والتجارب على ذلك ... وهذا ما نفسر به دفاع بعض الفرنسيين عن الحركة الوطنية الجزائرية في المجال السياسي، ونضالهم معها قبل إعلان الثورة وفي أثنائها، في حين لم نجد فرنسيًا واحدًا دافع ويدافع عن مبادئ جمعية العلماء إلا أن يكون ممن شرح الله صدورهم للإسلام، وأحسن مثال على هذا ذلك الصمت الذي قابل به الفرنسيون- أحزابًا، ومنظمات إنسانية، ونقابات، وشخصيات، وصحافة- عملية اختطاف الشيخ العربي التبسي- نائب رئيس جمعية العلماء- سنة ١٩٥٧، الذي لم يظهر له أثر إلى يوم الناس هذا، وهذه هي الحقيقة التي أكدها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.

لبِثَ الإمام الإبراهيمي في المنفى بِآفْلُو ثلاث حِجَج، وكانت السلطات الفرنسية في أثنائها تراقبه مراقبة صارمة، حيث "منع (حاكم البلدة الفرنسي) الناس من الاتصال به، وبَثَّ بواسطة عملائه في الجمهور أن هذا الرجل عدو لأولياء الله الصالحين، وهو يحاربهم، ولا يعترف بهم ولا بفضلهم وكرامتهم ... وأمر هذا الحاكم من جهة أخرى الموظفين والأعيان بأن يقاطعوه تمامًا لأنه عدو لفرنسا ( Anti-Français)) (٧)، ولكن ذلك كله "لم يمنعه من متابعة نشاطه الإصلاحي بصورة خفية" (٨)، وتحت هذه المراقبة الصارمة كان الإمام يسَيِّر شؤون الجمعية- بقدر ما تسمح به ظروف الحرب- عن طريق زواره من آله وصحبه، الذين تأذن لهم السلطات الفرنسية بزيارته.

ولم يشغله همه الخاص عن التفكير في همِّ وطنه ومعاناته، وكان يتمنى أن تأتيه الأخبار بما يثلج صدره، وهو قيام ثورة تعصف بالوجود الفرنسي في الجزائر، فقد سأل ذات مرة


٦) أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية ط ٣، الجزائر، م. و. ك. ١٩٨٦، ج ٣ ص ١٥١، وهو ينقل عن تقرير أمْني فرنسي بعنوان: "الجزائر في نصف قرن".
٧) أحمد قصيبة: الشيخ الإبراهيمي في منفاه ... مجلة الثقافة، عدد ٨٧، الجزائر، مايو- يونيو ١٩٨٣، صص ٢٧٨ - ٢٧٩.
٨) أحمد الخطيب: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ... الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، ١٩٨٣، ص ١٣٤، وهو ينقل عن تقرير فرنسي رقمه ٣١، وتاريخه ٤ مارس ١٩٤١، وهو موجود بمصلحة الوثائق بولاية وهران، بالجزائر.

<<  <  ج: ص:  >  >>