للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن أول واجب على المثقفين إصلاح أنفسهم قبل كل شيء، كل واحد في حدّ ذاته، إذ لا يصلح غيره من لم يصلح نفسه، ثم إكمال نقائصهم العلمية واستكمال مؤهلاتهم التثقيفية حتى يصلحوا لتثقيف غيرهم، إذ ما كل مثقف يكون أهلًا لأن يثقف، واذا كان المثقفون قبل اليوم في حالة إهمال فحالتهم إذا هيأوا أنفسهم لتأدية الواجب تستلزم اهتمامًا آخر واستعدادًا جديدًا، وثاني واجب هو إصلاح مجتمعهم كل طائفة مع كل طائفة بالتعارف أولًا وبالتقارب في الأفكار ثانيًا، ومن طبيعة الاجتماع أنه يحذف الفضول واللغو، وبالتفاهم في إدراك الحياة وتصحيح وجوه النظر إليها ثالثًا، وبالاتفاق على تصحيح المقياس الذي تقامى به درجة الثقافة رابعًا.

وهذه النقطة الأخيرة من ألزم اللوازم فإن التباعد بين المثقفين وخصوصًا بين أهل الثقافة العربية والثقافة الأوروبية، أدّى إلى فتح الباب وكثرة المتطفلين، فأنا من جهتي لا أرضى بحال أن أحشر في زمرة المثقفين كل من يكتب بالعربية الصحيحة مقالة في جريدة ولا كل من يستطيع أن يخطب في مجتمع، وهو مع ذلك عَارٍ من الأخلاق أو لا يحسن الضروريات من المعارف العصرية، وما أكثر هذا الصنف فينا، وهم يعدون في نظر الناس وفي نظر أنفسهم من المثقفين، وأنا أشهد الله أن هذا ظلم للثقافة ما بعده ظلم، كما أنه يوجد في قراء الفرنسية عدد كثير من حملة الشهادات يزعمون لأنفسهم أو يزعم لهم الناس أو يزعم لهم العرف الخاطئ أنهم من المثقفين، وهذا كذلك ظلم للثقافة لا أرضاه. وان أمثال هؤلاء من الطرفين ما دخلوا في عمل إلا أفسدوه لنقص معلوماتهم أو فساد أخلاقهم وقصر أنظارهم وجهلهم بالتطبيق، ولا نستريح من هؤلاء إلّا إذا جاء وقت العمل فإن القافلة إذا سارت وشدت الرّحال تخلف العاطل وظهر الحق من الباطل.

ولعل بعض السامعين يتشوف إلى معرفة السِّرّ في هذا التفاوت بين طبقات المثقفين منا، وأنا أشرح لكم بعض السبب وهو أن قراء العربية لم يخرجهم معهد واحد ولا معاهد متحدة التعليم موحدة البرامج مرتبة الدرجات منظمة الشهادات على التحصيل، وانما هم متخرجون من معاهد مختلفة لا تجمع بينها جامعة إلّا كونها عربية ومعظمها غير منظم ولا مرتب ومعظمهم تلقى تعليمه كيف ما اتفق ولم يكمل دراسته ولا أتم تحصيله، أما تربيتهم فجاءت ملونة بألوان تلك المعاهد.

ثم ألقى بهم الدهر إلى أمة متعطشة في أول عهدها باليقظة فهي لا تفرق بين صفو وكدر فكانت استفادتها منهم قليلة وربما ضروا أكثر مما نفعوا.

كذلك نعلم أن للثقافة الفرنسية في وطننا ثلاثة معاهد متباعدة الغايات متفاوتة الدرجات: الأولى الكليات الجامعة وما يوصل إليها، الثانية دار المعلمين، الثالثة المدارس الثلاث (١)،


١) هي المدارس التي أنشأتها فرنسا في الجزائر سنة ١٨٥٧ في تلمسان وقسنطينة والجزائر العاصمة لتخريج القضاة والمترجمين والأئمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>