للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن المؤسف حَقًّا أن أبناءنا في التعليم الجامعي انكبوا على الجانب المادي أكثر من الروحي والأخلاقي، فتخرج في جيلين بضع عشرات تناهز المائة من الأطباء والصيادلة ومثلها من المحامين، ودون العشرة من المهندسين، وإلى جانب ذلك كله دون العشرة في الآداب، ولم نر إلى جنب هذا العدد واحدًا تخصص في الفلسفة أو في علم النفس أو في الأخلاق أو في فلسفة الاجتماع والتشريع، وتعليل هذا الاتجاه معقول من روح الأمة وحالتها المادية وليس من المناسب شرحه في هذه المحاضرة، وإنما نقول إن للتقليد أثرًا كبيرًا في هذا الاتجاه شأن الأمم التي تكون في درجتنا من الانحطاط.

وإني أذكر لكم على سبيل العبرة حكاية اتفقت لي: مرض والدي رحمه الله مرض الموت في دمشق وتسامع أصدقاؤه فزاره في بضعة أيام نحو عشرين طبيبًا فسهرت ليلة عند صديقي الدكتور عزت أفندي شموط وهو شاب أديب مع براعته في فنه فأكبرت دمشق إذ كان فيها فوق المائتين من الأطباء من أبنائها ومن اللاجئين إليها أيام الحرب فقال صديقي الدكتور شموط: إن كثرة الأطباء في بلدة تدل على كثرة الأمراض والأوساخ فيها، وأنا أختار بلدة فيها عشرة مرشدين دينيين وعشرة أدباء وعشرة أطباء على بلدة فيها ثلاثمئة طبيب، لأن الأدباء يرققون عواطفها فتميل إلى الروحيات فتقل الأمراض، والمرشدون يعلمونها القصد في الأكل واللذات ويحضونها على النظافة، فهؤلاء أطباء ولكنهم يداوون المرض قبل وقوعه فإذا أفلت واحد، دَاوَاهُ الأطباء المعروفون، فأكبرت كلامه إذ كنت لا أنكره بذوقي.

ومن المؤسف أيضًا أن دار المعلمين تهيئُ خريجيها لأعمال خصوصية محدودة مقيدة يدور المعلم فيها طول عمره فلا يجد الوقت لتوسيع ثقافته بالمطالعة والكتابة والتطبيق، وكذلك القول في خريجي المدارس الثلاث وهذه القيود تشمل الثقافة وتحصرها في المدار الضيق.

واذا تمت الإصلاحات الأربعة جاء الخامس والأخير وهو الامتزاج بالأمة والاختلاط بطبقاتها والتحبب إليها ومشاركتها في شؤونها الاجتماعية والدخول في مجتمعاتها ومعابدها ومشاركتها في عبادتها وفي الصالح من عوائدها، فبذلك تحصل الثقة منها وتنقاد لكل ما نريده منها، وبذلك يسهل على المثقف أداء واجبه على أكمل وجه، وثقة الأمة بالمثقفين هي رأس المال في هذا الباب.

أما الواجب في حدّ ذاته فهو في الجملة إيصال النفع والخير إلى الأمة ورفع الأمية والجهل عنها، وحثها على العمل وتنفيرها من البطالة والكسل، وتصحيح فهمها للحياة وتنظيف أفكارها وعقولها من التخريف، وتنظيم التعاون بين أفرادها وتمتين الصلة والثقة بين العامة والخاصة منها، وتعليمهم معاني الخير والرحمة والإحسان لجميع الخلق.

<<  <  ج: ص:  >  >>