للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استخفافًا بهم وإمعانًا في التكالب عليهم والتحكم في رقابهم وأوطانهم، ولو فهمنا القرآن كما فهمه السلف، وعملنا به كما عملوا به، وحكمناه في نفوسنا كما حكموه وجعلنا أهواءنا ومشاربنا تابعة له وموزونة بميزانه- لو فعلنا ذلك لكنا به أعزة في أنفسنا وأئمة لغيرنا.

تفسير القرآن تفهيم لمعانيه وأحكامه وحكمه وآدابه ومواعظه والتفهيم تابع للفهم، فمن أحسن فهمه أحسن تفهيمه، ومن لم يحسن فهمه لم يحسن تفهيمه وإن كتب فيه المجلدات وأملى فيه ألوف المجالس، وفهم القرآن يتوقف- بعد القريحة الصافية والذهن النير- على التعمق في أسرار البيان العربي، والتفقه لروح السنة المحمدية المبينة لمقاصد القرآن، الشارحة لأغراضه بالقول والعمل، والاطلاع الواسع على فهوم علماء القرون الثلاثة الفاضلة، ثم على التأمل في سنن الله في الكائنات ودراسة ما تنتجه العلوم الاختبارية من كشف لتلك السنن وعجائبها، وقد فهمه السلف حق الفهم ففسروه حق التفسير مستعينين على ذلك بما ذكرنا من القرائح والأذهان، وأسرار البيان، ومستعينين بإرشاده على فقه سنن الأكوان، ولو لم ينحسر تيار الفهوم الإسلامية للقرآن بما وقف في سبيله من توزع المذاهب والعصبيات المذهبية لانتهى بها الأمر إلى كشف أسرار الطبيعة ومكنونات الكون، ولسبق العقل الإسلامي إلى اكتشاف هذه العجائب العلمية التي هي مفاخر هذا العصر.

كان علماء السلف يشرحون الجانب العملي من القرآن على أنه هداية عامة لجميع البشر يطالب كل مؤمن بفهمها والعمل بها، وكانوا يتحاشون الجانب الغيبي منه لأنه مما لا يصل إليه عقل المكلف فلا يطالب بعلمه ولا يحاسب على التقصير فيه، وكانوا ينظرون إلى الجانب الكوني منه نظرات مسددة لو صحبها بحث مسدد ممن أتى بعدهم.

وللمفسرين من عهد التدوين إلى الآن طرائق في فهم القرآن وأساليب في كتابة تفسيره.

أما الأساليب فقلما تختلف إلّا ببعد العصور حين تختلف الأساليب الأدبية، فتنحط أو تعلو فيسري التطور منها إلى الأساليب العلمية. أما الطرائق فإنها تختلف باختلاف الاختصاص في المفسرين والعلوم التي غلبت عليهم وعرفوا بها.

فالمحدثون يلتزمون التفسير بالمأثور، فإن اختلفت الرواية فمنهم من يروي المتناقضين ويدعك في حيرة، ومنهم من يدخل نظره وفكره في التعديل والترجيح كما يفعل أبو جعفر الطبري.

ومقلدة المذاهب يفسرون القرآن بقواعد مذاهبهم ويحكمونها فيه، فإذا خالف نصّه قاعدة من قواعدهم ردوه بالتأويل إليها. وهذا شر ما أصيب به هذا العلم بل هو نوع من التعطيل، وباب من التحريف والتبديل، لأنه في حقيقة أمره وضع لكلام الله في الدرجة الثانية من كلام المخلوق، وفي منزلة الفرع من أصله يرد إليه إذا خالفه، وأعظم بها زلة، وإن هذه

<<  <  ج: ص:  >  >>