للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عالجت "البصائر" في مستهلّ سنتها الأولى قضية الأحزاب وهي الفتنة التي مزّقت الشمل، وصدعت الوحدة، وأفسدت ما صلح من ضمائر الأمة، ونفخ فيها الاستعمار من روحه، فحاربت الحق بالباطل والحقيقة بالخيال، ووقفت عرضة للتعليم العربي الديني الذي هو الزاد الروحي لهذه الأمة، فبيّنت "البصائر" النهج القاصد، ونصحت المخطئ، وفضحت المريب، واشتدّت لحكمة، ولانت بحكمة، فلما أدّت حق الله، وأمانة النصح، وكلت الأمر إلى الزمن، وتركت سنن الله تجري في أعنتها وما زالت هذه السنن تري المبصرين صدق "البصائر".

وجاءت قضية فلسطين تتابع أدوارها الأخيرة المزعجة، ولفلسطين على كل مسلم حق، وفي عنق كل عربي عهد، فقامت "البصائر" ببعض الواجب على مسلمي الجزائر، وكتبت تلك المقالات التي قلّما كتبت صحيفة مثلها، ونعت على العرب وملوكهم تواكلهم وتخاذلهم واغترارهم، وأنذرتهم سوء المصير، فلما وقعت النكبة التي سجّلت على المسلمين خزي الأبد، ووسمت العرب سمة الذل التي لا تُمْحَى، جفّ الريق والمداد، وأغضينا الجفون على القذى، وفي النفس من الحزن لواعج، وفيها زفرات مكبوتة، لا تكون- إذا انفجرت- من باب: أوسعتهم سبًا وراحوا بالإبل. وإنما تكون صرصرًا عاتية على أمراء العرب وكبرائهم الذين لم يأكلوا تراث العروبة ولكن أضاعوه، ولم يحفظوا مجد الإسلام بل باعوه، وتكون حربًا على هذه الأخلاق الدخيلة على الدم العربي التي هيّأته للذل والعبودية والهوان. وما زالت هذه الزفرات تعتلج وتتصاعد، حتى انبرى كاهن الحي لنقد ملوك العرب وأخلاق العرب بأسلوله الذي رجع بالعربية إلى عهود الجاهلية. فقضى بعض الحق وشفى شيئًا مما في النفس، وقد أخبرنا الكاهن بأن للكهانة فترات قسرية، وأنه سيجول- حين يعاوده نجيه- في أقطار العرب، ويتناول قادتهم وعلماءهم بما هم أهله.

إن تلك العاقبة الشنعاء لقضية فلسطين يعود وزرها على ملوك العرب وحكوماتهم وأحزابهم، وأنهم لا يعذرون فيها ولا يستعتبون، وأن كارثة المشرّدين هي العورة التي لا توارى في الجسم العربي، وهي الفضيحة السوداء في تاريخهم، وأن ويلات اللاجئين كلها مكتوبة في صحائف أولئك القادة والأمراء ... وسيتقاضى من كتبت له الحياة من أولئك اللاجئين ثأرهم من قادة العرب وأمراء العرب. وويل للطاعمين الناعمين من الجياع الظماء ...

أما السنة الثانية التي سلختها "البصائر" بالأمس فقد كانت قضيتها الشاغلة هي: التعليم العربي، وفصل الدين عن الحكومة. وقد حملت "البصائر" في الأولى الحملات الصادقة، بتلك المقالات الفاضحة وأبلت في الثانية بما فيه البلاغ. وما زال هذا القلم بليلًا بمدته، ينتظر انقطاع القواطع ليعود إلى الميدان. وإذا كانت القضيتان واقفتين حيث وقف القلم، فما

<<  <  ج: ص:  >  >>