للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من أطوار هده الأمة في التاريخ أن اختلف ملوكها وقادتها وساستها، وذاقت من خلافهم

الشر والبلاء، واختلف علماؤها في الدين فكان خلافهم وبالًا على الأمة، وتشتيتًا لشملها، وصدعًا لجدار وحدتها، وقطعًا لما أمر الله به أن يوصل من أرحامها، ثم فر العلماء من الميدان وتركوه للأمراء المستبدين، ثم ألقى الأمراء المقاليد في أيدي السفهاء من الأنصار والذرية والأتباع، وكل أولئك قد فعل في هذه الأمة ما لم يفعله "نيرون"، وكل تلك الأعمال قد أثرت في أخلاق الأمة التأثير العميق وسكت العلماء أذلة وهم صاغرون، يرون الحق مهضومًا فلا ينطقون، والمنكر فاشيًا فلا يغيرون ولا ينكرون، وهيهات بعد أن تنازلوا عن حقهم طائعين.

يقع ذلك كله في كل طور من الأطوار التاريخية حتى يبتلى المؤمنون، ويظنوا بالله الظنون، وإذا بذلك العرق يتحرك، وإذا بتلك الانتفاضة تعرو، وإذا بالأمة قائمة من كبوتها، تذود قادة السوء عن القيادة، وعلماء السوء عن الامامة، وتنزل دخيل الشر بدار الغربة. جربنا فصحت التجربة، وبلونا فصدق الابتلاء، وامتحنا فدل الامتحان على أن عرق الإيمان في قلوب هذه الأمة كعرق الذهب في المنجم كلاهما لا يبلى وان تطاولت القرون، ثم جلونا هذا العرق في عمل ثلاثين سنة خلت فإذا خصائصه الطبيعية لم تتغير.

هذه الأمة كبا بها الزمن وأدارها على غرائب من تصاريفه حتى أصبحت عونًا له على نفسها، وترصد لها العدو كل غائلة، ففتنها عن دنياها حتى سلمت له فيها، ثم فتنها عن دينها حتى كادت تتلقاه عنه مشوها ممسوخًا، وأحاطت بها خطيئاتها من كل جانب فجنت على نفسها بما كسبت أيديها من سوء الأقوال، وفساد الأعمال، ولكن ذلك العرق المخبوء في تلك المضغة يتحرك فيأتي بالعجائب.

هذا تطور شهدناه في تاريخ الأمة الجزائرية الحديث، كما شاهدناه في تاريخ أسلافها وجيرانها، وما هذا المنظر المعجب المطرب بآخر منظر في رواية التاريخ.

أيها الإخوان، أيها الأبناء:

إن يومكم هذا قد تعاظم حتى كاد ينسي الأيام الغر التي سبقته في تاريخ نهضتكم العلمية، فلا تنسوها، ولكن تناسوها، لا تنسوها فلولاها لما كان هذا اليوم بهذه العظمة، وتناسوها لئلا تغركم فتقعد بكم عن تكرار أمثال هذا اليوم بأكمل منه وأعظم روعة منه. عدوا هذا اليوم فاتحة لأيام علمية أزهر وأعطر، وأفخم وأضخم، عدوه كالبسملة من لوح القارىء، عدوه مقدمة لكتاب متعدد الأسفار، انفخوا فيه من الأعمال، لا من الآمال، اجعلوه نموذجًا لأيام المستقبل، وطالعًا من طوالع سعودها، وأعيذكم أن يقصر بكم النظر فتجعلوه ختامًا لأيامكم القريبة، من يوم "الغزوات" إلى يوم "ندرومة" إلى يوم "وهران" إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>