للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعينها على ذلك، وينشطها، ويعرف لها أعمالها، لا أن يخذلها ويئبطها ويبسط لسانه بالسوء فيها.

وان الاستعمار ما عكف على هدم تلك المقوّمات قرنًا كاملًا إلا لأنه كان يعلم أن سيأتي يوم يصيح فيه صائح بكلمة "حقي"، فقدّرَ لذلك اليوم، ولذلك الصائح، أنهما لا يأتيان، حتى لا تكون هذه الأمة في موضعها من الأرض لأنها أضاعته، ولا في موضعها من التاريخ لأنها نسيته؛ ولعمري إذا لم توجد الأمة فما صياحُ الصائحين إلا نفخ في رماد.

إن جمعية العلماء تعمل لسياسة التربية لأنها الأصل، وبعض ساستنا- مع الأسف- يعملون لتربية السياسة، ولا يعلمون أنها فرع لا يقوم إلا على أصله؛ وأيُّ عاقل لا يدرك أن الأصول مقدَّمةٌ على الفروع، وإن الاستعمار لأفقه وأقوى زكانة، وأصدقُ حدْسًا، من هؤلاء حين يسمي أعمالَ جمعية العلماء سياسة، وما هي بالسياسة في معناها المعروف ولا قريبة منه، ولكنه يسميها كذلك لأنه يعرف نتائجها وآثارها، وأنها اللُّباب وغيرها القشور؛ ويعرف أنها إيجاد لما أعدَم، وبناء لما هدَم، وزرعٌ لما قلع، وتجديد لما أتلف، وفي كلمة واحدة، هي تحد صارخ لأسلوبه، وما خدعناه في ذلك- والله- ولا ضلّلناه، وإنها لنقطة اصطدام على الحقيقة بين نظر الجمعية وبين نظر الاستعمار؛ فلا الإسلام يسمح لنا أن نعمل غير ما عملناه، ولا الاستعمار يرضى عن ذلك العمل، وقد أجبناه وانتهينا، ومضَينا وما انثنينا.

أَيُريد هؤلاء أن يبنوا الفروع على غير أصولها، فيبوءوا بضياع الأصل والفرع معًا؟ أم يريدون أن يجعلوا الفروع سلمًا للأصول، على طريقة أبي دلامة (١)، فيبوءوا باختلال المنطق وفساد القياس؟!

إننا نعدّ ضعف النتائج من أعمال الأحزاب في هذا الشرق العربي كله آتيًا من غفلتهم أو تغافلهم عن هذه الأصول، ومن إهمالهم لتربية الجماهير وتصحيح مقوّماتها، حتى تصبحَ أمةً وقوةً ورَأيًا عامًّا وما شاء الحق؛ ومن ترويضهم إياها على لفظ الحق قبل اعتقاد استحقاقه، وعلى لفظ الخصم قبل إحضار الحجة، وعلى لفظ العدو قبل أخذ الحيطة؛ ومن اغترارهم بالظواهر قبل سبْر البواطن، وبالسطحيات قبل وزن الجوهريات، وبالأقوال قبل أن تشهد الأفعال، ففي الوقت الذي كان فيه جمال الدين الأفغاني يضع أساس الوطنية الإسلامية على صخرة الإسلام الصحيح، ويهيب بالمسلمين أن ينفضوا أيديهم من ملوكهم ورؤسائهم وفقهائهم، لأنهم أصل بلائهم وشقائهم، وفي الوقت الذي كان محمد عبده يطيل ذلك البناء ويعليه كان مصطفى كامل- على إخلاصه لدينه ووطنه- يوجه الأمة المصرية إلى مقام


١) حكايته مع بعض الخلفاء مشهورة حين حكمه في الجائزة فاقترح كلب صيد ثم ترقى منه إلى طلب خادم وزوجة تطبخ الصيد ودار تؤوي الجميع، إلخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>