للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخلافة العظمى المتداعي، ويخيف الاستعمارَ بشبح لا يخيف، ثم جرَت الأحزابُ المصرية إلى الآن على ذلك المنهج: إهمال شنيع لتربية الأمة وتقوية مقوماتها، وتطاحنٌ أشنع على الرياسة والحكم، وترديدٌ لكلمة الوطنية دون تثبيت لدعائمها، وتغن بمصالح الوطن وهي ضائعة، وترام بالتهم، والجريمةُ عالقة بالجميع، وتقديسٌ للأشخاص، والمبادئ مهدورة، والاستعمار من وراء الجميع يضحك ملءَ شدقيه، وينام ملءَ عينيه.

ليت شعري: إذا كان من خصائص الاستعمار أنه يمحق المقوِّمات ويميتها، ثم يكون من خصائص أغلب الأحزاب أنها تهملها ولا تلتفت إليها، فهل يلام العقلاء إذا حكموا بأن هذه الأحزابَ شر على الشرق من الاستعمار، لأن الاستعمار يأتيه من حيث يحذَر، والحذر- دائمًا- يقظ، أما هذه الأحزاب فإنها تأتيه من حيث يأمن، والآمن أبدًا نائم، فإذا انضم إلى هذا الداء المستشري خلاف الأحزاب ومنازعاتها، كانت النتيجة الطبيعية ما نرى وما نسمع، وقد أصبح هذا الشرق في تعدّد أحزابه السياسية كعهده في الخلافة العباسية يوم كان كل خلاف جدليّ في لفظة يسفر عن فرقة أو فرق، وكل مجلس مناظرة بين فريفين ينفضّ عن ثالث ورابع، ونراهم يقولون: إن كثرة الأحزاب في أمة عنوان يقظتها وانتباهها، وضمانُ وصولها إلى حقها، ولكننا لم نرَ من تعدد الأحزاب إلا نقصًا في القوة، ونقضًا للوحدة، وتنفيسًا على الخصم، واشتغالًا من بعضهم ببعضهم؛ وتعالتْ كلمة القرآن، فإنه لا يكاد يذكر الأحزابَ بلفظ الجمع إلا في مقام الخلاف والهزيمة {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ}، ولا يكاد يذكر الحزب بلفظ المفرد إلا في مقام الخير والفلاح {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وإن حزبَ الله في الأمة الجزائرية هو جمعية العلماء، وانها لمفلحة لا محالة.

إن من الغفلة والبله أن نقيس أحزابنا بالأحزاب الأوروبية، فإن تلك الأحزابَ ظهرتْ في أمم استكملتْ تربيتها وصححتْ مقوماتها، بدعوة دعاة جمعوا الكلمة، وعلماءَ أحيوا اللغة، ومعلمين راضوا الأجيال على ذلك، وأينَ نحن وأحزابنا من ذلك؟

يا إخواننا- خطاب عطف وتشريف- لسنا والله نبغضكم، فما أنتم إلا جزء منا، ولسنا والله نحتقركم فما أنتم إلا رأس مال هذه الأمة الفقيرة، ولسنا والله نتهمكم بممالأة الاستعمار فأنتم عندنا أجلّ من ذلك، ولكننا نعدّ مقاومةَ المقاومين منكم لجمعية العلماء ناشئةً عن بعدهم عن التربية الإسلامية والثقافة العربية، ونجد في كل عيب من عيوبهم أثرًا بارزًا من آثار الاستعمار في تربيتهم.

إن أقبح ما في أساليبكم أنكم تقسرون المبادئ على الخضوع للشخصيات في أمة حديثة عهد بعبادة الأشخاص، فتعرضونهما معًا للضياع، وأن أسوأ أعمالكم احتقاركم للسواد الأعظم من الأمة- وهي أمتكم- فلا تفكرون في إعدادها، ولا في درجة استعدادها، ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>