للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي ظل سيوفهم، بعيدًا عن روحانيتها السامية، مصطبغة بالعنجهية الرومانية والعتو الروماني، فكان مقامها واستقرارها تابعين في الطول والتمكن للاستعمار الروماني.

وقد كان للتشريع الإسلامي المتعلق بمعاملة أهل الكتاب ورعايتهم والرفق بهم أكبر الأثر في الإبقاء على الكتابيين واحترام ما يدينون به فعاشوا متمتعين بالحقوق، معفين من الواجبات، وكانوا كلما ضامهم أمير جائر لم يسلم من جوره مسلم ولا كتابي، وجدوا في القرآن وفي الوصايا النبوية وفي عهود الخلفاء الراشدين ما يرد عنهم الشرور والغوائل؛ حتى أصبح هذا الشمال ملاذًا عاصمًا لكل من ترجف به راجفة في أوربا من اليهود، وللمسيحية عند اليهودية تِرَاتٌ لا يزيدها القدم إلّا جدة، كما أصبح مقيلًا لكل من تبوأه من المسيحيين، يجدون فيه- تحت ظل الإسلام- العيش الرغيد، والأمان المنيم، والعدل الشائع، والجوار الذي لا يخفر. ولولا تلك النزوات التي كانت تبدو من ملوك المسيحية من وراء البحار، وتلك الغارات التي كانوا يشنونها على سواحل أفريقيا الشمالية طمعًا في الفتح، لما ريع لمسيحي في هذه الديار سرب ولا مسه أذى.

فالإسلام، في إبان قوته وعنفوان فورته، تعرف إلى الدينين بالخير والحق والعدل والإحسان، وأبقى على الدماء والعقائد والمعابد، بل حماها وحافظ عليها أكثر من محافظة الدول المسيحية، ولما جاز البحر إلى الأندلس لينشر الهداية والنور ووجدهما هناك يضطهد أقواهما أضعفهما، رفع الضيم عن المضيم وسوّى بينهما في عدله وعاملهما بتلك المعاملة نفسها، ولم يشهد التاريخ أنه أكره يهوديًّا أو مسيحيًّا على الإسلام، على نحو ما فعلت (إيزابيلا) و (فرديناند) ومن خلفهما مع المسلمين يوم دالت دولتهم وزالت صولتهم؛ أو كما فعلت الحكومات الإسبانية بعدهم في وهران وبجاية وتونس، من انتهاك حرمات الإسلام، وكل تلك الفظائع وقعت في بدء الإرهاصات المبشرة بالحضارة الغربية السائدة الآن.

إن الإسلام ضَرَب الخراج على الأرض ولكنه لم يخرج أهلها غصبًا، وضرب الجزية على الرقاب، ولكنه حماها من الظلم، وفتح لها باب العلم، وأعفاها من تكاليف الجندية والتسخير، فأين تلك المعاملة السمحة الرحيمة مما تعامل به الحكومات المسيحية والمؤسسات اليهودية الإسلام اليوم؟ وأين تلك الصراحة المتجلية في أحكام الإسلام، والمقاصد السامية في سياسته من هذا النفاق المتستر، والرياء المدسوس، والسموم الماثلة في سياسة الدول المسيحية وقوانينها، وفي برامج الجمعيات اليهودية ونظمها؟ إن الإسلام لا يرى الكتابيَّ إلّا ذميًّا له كل ما للمسلم من حقوق، وليس عليه كل ما على المسلم من واجبات، أو معاهدًا يوفى له بعهده، أو مستأمنًا يبلغ به مأمنه، أو محاربًا ينبذ إليه على سواء، بلا ظلم في الأولى، ولا نقض في الثانية، ولا نكث في الثالثة، ولا غدر في الرابعة.

***

<<  <  ج: ص:  >  >>