للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الاستعماريين القدماء، وقد مللناه. فأمّا عدل ينشر، وصلاح يُؤثر، وأعمال تجمع القلوب على الصفاء، ومواعيد مقرونة بالوفاء وعلاج للعلل، وترقيع للخلل- فإننا لم نرَ من ذلك شيئًا- وأما معجزات من الأعمال، التي يتفاضل بها الرجال، فإننا لم نرَ في ناحية الإيجاب إلا اغتصاب الحكومة لأوراق الانتخاب، واستلابها لإرادة الناخبين بالقوّة المسلّحة، وبناء مجلس لا يتصل بالديمقراطية من قريب ولا من بعيد؛ ولم نرَ في ناحية السلب إلا سكوتها العميق عن القضايا التي أحالها البرلمان الفرنسي على المجلس الجزائري، ومنها قضية "فصل الحكومة عن الدين" ...

...

لم نتعرّض لأعمال الوزير الوالي وخطبه المتكررة، حتى سمعنا خطبته الأخيرة (بعين صالح)، وقرأناها في الصحف، فلفتتنا كلمات منها، جلَّى فيها مقاصد الاستعمار بالجزائر، ونبّهنا على السر في تشدّد حكومته في قضيّتنا الدينية، وتصامِّها على سماع كلمة الحق فيها، تلك الكلمات هي ثناؤه- في معرض الامتنان على الجزائر- على الجندي، والمعلّم، والطبيب، والراهب، وقرنه إياهم في قرن. ومعنى هذه الكلمات عندنا أن فرنسا قذفت هذا الوطن بأربعة أنواع من القوى مختلفة التأثير، متّحدة الأثر، متباعدة الميادين، ولكنها تلتقي على هدف واحد، وهو التمكين للاستعمار؛ وأنها حاربته بأربعة أصناف من الأسلحة البشرية، أخفّها فتكًا وأقصرها مدى، الجندي ...

جاءت فرنسا إلى الجزائر بالراهب "الاستعماري" لتفسد به على المسلمين دينهم، وتفتنهم به عن عقائدهم، وتشككهم بتثليثه في توحيدهم، وتضار في ألسنتهم كلمة "الهادي" بكلمة "الفادي". ذلك كله بعد ما أمدّته بالعون، وضمنت له الحرية، وكفرت به هناك لتؤمن به هنا.

وجاءت بالمعلّم "الاستعماري" ليفسد على أبناء المسلمين عقولهم، ويلقي الاضطراب في أفكارهم، ويسْتَنْزِلَهم عن لغتهم وآدابهم، ويشوّه لهم تاريخهم، ويقلّل سلفهم في أعينهم، ويزهدهم في دينهم ونبيّهم، ويعلّمهم- بعد ذلك- تعليمًا ناقصًا: شر من الجهل.

وجاءت بالطبيب "الاستعماري" ليحاري على صحة أبنائها قبل كل شيء، بآية أنه لا يكون إلا حيث يكون الأوربيون، لا في المداشر التي يسكنها الألوف من المسلمين وحدهم، ولا في القبائل المتجاورة التي تعد عشرات الألوف منهم. أما هذا الطبيب الاستعماري بالنسبة الى المسلمين فكأنما جاء ليداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بخلق جراثيم، ويجرّب معلوماته فيهم كما يجرّبها في الأرانب؛ ثم يعيش على أمراضهم التي مكّن

<<  <  ج: ص:  >  >>