للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لها الاستعمار بالفقر والجهل، مما جعل الجزائر كلها- إذا استثنينا الحواضر- بستان المشمش في نظر ابن الرومي (١). هذا هو المعنى الذي نفهمه من مجيء هؤلاء، ومن ثناء السيد الوزير الوالي عليهم.

...

وبعد، فهل تتّسع الصدور لمناقشة هذه الكلمات الصريحة، بكلمات صريحة؟

جاءت فرنسا إلى الجزائر بالجندي ففتح بالقوة، ومهّد بالقوة، وسجّل لها في تاريخ الإنسانية صحائف لا ندري ما لونها، إلا إذا قرأنا "رسائل سانت أرنو"، وتقرير لجنة البحث البرلمانية سنة ١٨٣٣، وكتاب "كريستيان" وكلام النائب المنصف "روجي" في مجلسى الأمة الفرنسي شهر جانفي سنة ١٨٣٤.

ثم جاءت بعده بالمعلّم والطبيب والراهب، بعد أن أجرت لهم عملية التلقيح بمادة "الاستعمار"، وهي مادة من خصائصها تعقيم الخصائص، فلم يبق المعلم معلمًا علميًّا، ولا الطبيب طبيبًا إنسانيًّا، ولا الراهب أبًا روحيًا، وإنما جاءوا في ركاب الاستعمار ليخدموه ويثبتوا أركانه.

ونظر الناس بعد مرور مائة وعشرين سنة على هذه "الرحمات" الثلاث المرسلة إلى الجزائر من سماء فرنسا، فإذا تسعة وتسعون في المائة من أبناء الأمة الجزائرية أميّون، لم يرَوْا مدرسة، ولم يسمعوا بمعلم، فقدوا قديمهم ببركة الاستعمار، ولم يجدوا الجديد! وإذا الطب الاستعماري لم يقضِ على المرض وإنما قضى على الصحة، فأربعمائة ألف من مجموع الأمة مسلولون، والباقون معلولون، وعشرات الآلاف من الأجنّة تسقط لفقد العناية، ومثلها من الصبيان يموت لسوء التغذية، ومثلها من الأحداث يذبل عوده لفقد وسائل التنمية، وإذا الراهب المبشّر ذئب فلاة، يتربّص اليتم لينصِّر الأبناء، والمجاعات ليفتن الآباء، فكأن من وصايا المسيح عنده أن لا يطعم البطن إلا إذا أخذ القلب، وأن لا يكسو الظهر إلا بالتجريد من الدين، ولا ينشر تعاليم المسيح إلا باستغلال أزمات الضعفاء والبائسين! ... حاشا لدين المسيح عليه السلام وكلمته التي ألقاها إلى مريم أن يكون هذا طريقه إلى النفوس، وهذه طريقته في الانتشار. إن المسيح كان عدوًّا للظلم والباطل، وإن الاستعمار أقبح باطل وأشنع ظلم على وجه الأرض، فهل يُعدّ من أتباع المسيح وورثة هديه من ينصر الاستعمار؟


١) يقول ابن الرومي:
إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش ... فأيقن بحق أنه لطبيب
يغل له ما لا يغل لربّه ... يغل مريضًا حمل كل قضيب

<<  <  ج: ص:  >  >>