للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان حزب الحق هو المغلوب، ومن هذا ولهذا وضع التقرير العاصمي، وكأنه مقدّمة لكتاب، أو طليعة لكتائب، ومن هذا ولهذا رأى الناس مفتي الجامع الحنفي مترددًا دائمًا على مقر المجلس، متصلًا بأعضائه مداخلًا لهم، متطارحًا عليهم، متملقًا إياهم، لا يفارق أحدهم إلا ليتصل بآخر. كأنه المعني بقول القائل: لا يرسل الساق إلا ممسكًا ساقًا، وكأنه آنس منهم صاغية، فهدّد في بعض ما كتب بأن (سعيه سوف يرى) ...

...

ونظرنا نظرة أخرى فإذا هذه القضية قد خرجت من يد الحكومة- بالمعنى الذي نعرفه للحكومة- وأنها لا تملك فيها رأيًا، ولا تهتدي سبيلًا، على ما استباحت في سبيلها من حرمات، وارتكبت من محرّمات، وأن القضية أصبحت كرة تتلاعب بها الأهواء المتعاكسة، والمكاتب المتشاكسة. ففي الولاية العامة مكاتب، لكل مكتب في القضية نظر ووجهة هو موليها، ولكلّ مكتب غاشية من (رجال الدين) تطرق الأبواب خلسة، وتقنع من البخت السعيد بالجلسة، وفي إدارة عامل الجزائر مكاتب أخرى تُزاحم وتُلقي دلوها في الدلاء، ويلوذ بها جماعة من (رجال الدين)، ولكل واحد من عمّال العمالات (٢) رأي في القضية ومنهاج عملي يجري عليه، وعلى الدستور الجزائري العفاء، ولكل واحد منهم (محاسيب) من رجال الدين، يفيدون ويستفيدون، وإن اهتبال العمّال بهذه القضية لأمر طبيعي، لأنها سلطة مجدودة، وسلطنة غير محدودة، فهم يخشون أن تفلت منهم، فهم الذين يولون رجال الدين ويعزلون، فكيف عن هذه العروش ينزلون؟ وكيف لا يعذرون إذا جاحشوا عنها إلى آخر رمق؟

وإن هذا هو الذي يفسّر لنا موقف عامل قسنطينة من الوفد الذي فاوضه في قضية الجامع الكبير منذ أشهر.

ذلك أن طائفة من أعيان مدينة قسنطينة وفضلائها هالهم ما رأوا من إقبال طلبة الآفاق على معهد عبد الحميد بن باديس، وهالهم أن يضيق المعهد بهم، فيرجعوا خائبين، ورأوا أن في ذلك مسًّا بكرامتهم، وخدشًا لسمعة بلدتهم، فعقدوا اجتماعًا في المعهد، وحضرناه معهم لنبلى في العذر، وقرّروا إيفاد وفد إلى عامل العمالة باسم مدينة قسنطينة ليفاوضه في فتح الجامع الأعظم في وجوه هذه المئات التي ضاق عنها المعهد ولم تجد أماكن لدراسة دينها ولغتها، وتألف الوفد من رئيسي أكبر الأسر القسنطينية، وأعرقها في العلم والشهرة، وأطولها امتدادًا مع التاريخ، وأقربهما لرضى الحكومة، وهما الحاج محمد المصطفى بن


٢) عُمّال: جمع عامِل وهو "المحافظ أو الوالي". والعَمالة: المحافظة- الولاية.

<<  <  ج: ص:  >  >>