للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

باديس، والحاج الخوجة بن الشيخ الفقون، ومن نائبين في البرلمان الفرنسي وهما السيدان الهاشمي بن شنوف وعبد القادر قاضي، ومن محاميين مشهورين هما الأستاذان الحاج إدريس، والحاج مصطفى با أحمد، ومن ثلاثة من رجال الإصلاح الحافِّين من حول المعهد، والتقى الوفد بالعامل على ميعاد، وشرح له القضية، وما من رجاله إلا منطيق مبين، وكان مما قالوا له: إن هذه المسألة لا تهم شخصًا معينًا، ولا هيئة معينة، وإنما تهم الأمة وأبناءها بصفة عامة، ثم تهم- بوجه خاص- مدينة قسنطينة التي يأبى لها شرفها وسمعتها أن ترى أبناء الأمة الجزائرية يؤمونها لطلب العلم، ثم يرجعون كالمطرودين منها، لا لشيء إلا لأنهم لم يجدوا أمكنة للدراسة، ومساجد الأمة خاوية على عروشها، معطلة من أعظم وظائفها وهو التعليم، وتكلم ابن باديس على سنّه ومقامه وبيته فأقنع، وتكلّم النائبان بما لهما من حق النيابة وقوتها فأحسنا، وتكلم المحاميان بما لهما من المكانة في القانون فأفحما، ولكن حضرة العامل كان قيصري النزعة في الخطاب والجواب، فلم يزد على أن رد عليهم بكلمات جوفاء من الطراز المألوف، وبوعود من الطراز المألوف أيضًا ... وبتنصّل من أوائل القضية وأواخرها مألوف أيضًا ... وبإحالة على مرجع أعلى منه، وهذا من المألوف أيضًا، ثم ضرب للوفد موعدًا بإرجاع الخبر، وهذا من المسكنات المألوفة أيضًا ... ولعلّ السادة ما زالوا ينتظرون رجوع الخبر إلى الآن ...

ولم يخلُ هذا الاجتماع- على ما بلغنا- من تلك العادة الممقوتة التي تفننت هذه الحكومة فيها، وبرعت في استخدامها، وهي التلويح بشق معارض ... فقد تعوّدت أن ترصد لكل حق معارضًا من الباطل، تقيمه وتنصبه، وتدّخره من يوم الاستغناء ليوم الحاجة، أو ترتجله ارتجالًا، إذا حفزها الأمر، ولهذه الغاية نراها تُكوِّن جمعية دينية، في كل بلدة فيها جمعية دينية حرّة لتضار هذه بتلك، فكلّما طالبت جمعية العلماء بحق، أو وقفت موقفًا يغيظ الحكومة أوحت إلى جمعيتها: أنْ عارضي، وقولي: لا، فيما قالت فيه الجمعية الحرة: نعم، وكم تجرّعنا من هذه العادة من صاب، وكم لقينا فيها من أوصاب.

ويلوح لنا أن لعامل قسنطينة على الخصوص هوى غالبًا مبرحًا في الجامع الأعظم، وأنه حريص على إبقائه في يده، ولو حكم المجلس الجزائري، ولو تصافت المكاتب، ورجع إلى الحق (المعتوب) والعاتب؛ وكأن له فيها غرضًا بديعًا، وذوقًا لطيفًا وهو أن يجعل منه مزارًا للزوّار من العظماء، ومتحفًا عامرًا بالتحف الآدمية المتحركة، والدمى البشرية الحية، فكلما زار قسنطينة عظيم من فرنسا ذو حيثية، طيف به على الجامع الكبير والبيعة الكبرى، والكنيسة العظمى، ليرجع الزائر إلى وطنه بصورة رائعة من امتزاج الأديان، وإيمان جديد بقدرة الرجال على المزج والعجن، وبشهادة صادقة للعامل بأنه لا يفرّق (بين أحد من رسله) ... ومن عاش في الجزائر رجبًا، رأى عجائب لا عجبًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>