للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما جد جد القضية الدينية بيننا وبين الحكومة انتهى بنا الأمر إلى إمعان في الذياد، وانتهى بها إلى غلو في الكياد، فرأت أن (تُلحق) الصوم والأعياد الدينية بالمساجد والحج، حتى يعمّها الاستعمار، ويشملها الاحتكار، وبنت الجديد في القضية- وهو لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية- على القديم، وهو لجنة الأهلة التي كانت وبانت واستصدرت قانونًا يجعل الأعياد الإسلامية رسمية، تعطل فيها الأعمال والمصالح الحكومية، لتفتن العمّال والموظفين بذلك، فيكون صغوهم إليها، وهواهم معها، ولها في ذلك مآرب أخرى، وعمدت إلى قاضٍ من قضاتها المخلصين في ابتغاء مرضاتها، فنصّبته رئيسًا لتلك اللجنة، وشدّت عضده بعصبة من طرازه، لتحرّك النار بأيديهم، وتعمل ما شاءت بأسمائهم وألقابهم، وبدأت التجربة العملية المفضوحة في العام الماضي.

ومن أغرب المتناقضات في شؤون هذه الحكومة أنها تقتل الشيء، ثم تحاول استغلال خصائص الإحياء منه، فهي التي مسخت هذه الألقاب الإسلامية وامتهنتها، وجرّدتها من كل احترام، باحتكارها للتصرّف فيها، ووضعها في غير مواضعها، وإلباسها لغير مستحقّيها، ثم بدت لها بدَوات، فجاءت الآن تريد أن تستغل آثار هذه الألقاب في نفوس المسلمين، وهيهات ... إن المسلمين لا يحترمون هذه الألقاب إلا إذا كانت من وضعهم في اللغة الدينية، وما زالت فيهم بقية من الرشد الديني يُفرقون بها بين ما يريدونه لأنفسهم وبين ما يراد بهم، وبين ما يحوكونه بأيديهم، وبين ما يُحاك لهم ...

...

وفي هذا العام ... جاءت ليلة الثلاثين من شعبان، فباتت جمعية العلماء مرابطة بمركزها الذي لا يغلق حتى تغلق مراكز التليفون، تتلقّى الأخبار وتوزّعها، وباتت الأمّة متّصلة بها، اتصال من يهمّه الأمر بمن يعنيه الأمر، وأصبحت الأمّة صائمة في شبه إجماع على الثبوت، وعلى إلهام واحد من الحق، لا يد لهذه اللجنة فيه.

أما لجنة الأهلة فباتت نائمة ملء جفونها من غير علة ... لم تمتثل من سنن الله إلا جعل الليل لباسًا ... وإنما أرادت أن تثبت وجودها، وتعلنَ عن نفسها، فأوعزت من أول الليل إلى الإذاعة- كما بلغنا من مستمعيها- أن تدعو بالشفاء لرئيسها المريض، وأن تقول على لسانها: إن الصوم ثبت عندها ثبوتًا شرعيًا ... ولم تُبين وجه الثبوت، أهو بالرؤية، أو بحساب المرصد؟ ... ففهمنا من ذلك الإجراء البسيط أن شهر رمضان خفيف الوزن عند الحكومة لأنه لا عطلة فيه، بقدر ما هو ثقيل على اللجنة، وفهمنا أن هذه اللجنة ترتجل هذه الإعلانات ارتجالًا من غير تثبّت ولا عناية، لتفيد البسطاء أنها حية كإفادة حياة المتكلّم من

<<  <  ج: ص:  >  >>